معالي المواطن الأخير.. .. زياد بارود

هُزم المواطن زياد بارود.
هزمته صورة العسكري الواقف أمام وزارة الاتصالات بالثياب المدنية المخيفة بشدة حين تقترن بالسلاح. العنصر الذي حين يأمره ضابط ما بأن يتخلى عن مشروعية بزّته المرقطة، ينزل من جندي إلى أقل من ميليشياوي، ويُنزل معه هذا الضابط إلى أقل من مسؤول نزق لزقاق معتم.

هُزم القانوني، بينما العسكر يُستنفر على العسكر، في مشهد علينا ان نخفيه، كما صور الجثث، عن عيون الاطفال. استنفار يكفي وحده للإيمان التام بأن بلداً كهذا لن يقوم.
هزائمه تكاد لا تُحصى، معالي المواطن الأخير. هذا الذي دخل إلى الوزارة راسماً مدنيته على شفتيه كابتسامة، وتاه ما إن دخل في غابة من رماح. غابة، كل شيء فيها مشهور على رؤوس الرماح. نجوم الضباط، ورتب الرتباء، والأخلاق، والحقوق أبسطها وأعقدها، وكتب القانون، والأعراف، والطوائف، والسياسيون، وأرواح الناس، والاصطفافات، والاحقاد، والمصالح، والدناءة، والكذب والورثة ومن اختاروا أن يكونوا جزءاً أبدياً منها.
كل الاشياء مباحة في ساحة حرب هي نفسها سوق نخاسة، الواحد فيها، نفسه، يلعب أدوار التاجر والزبون والعبد الذي يباع ويشترى.

سوق فيه الناس من صنف خاص، يستقوون بعضهم على بعض بعضلات طوائفهم، ويفخرون ليس بقدرتهم على كسر القانون فحسب، بل التحايل عليه، وإفراغه من مضمونه ومعناه وسببه. يتبجحون بالاستزلام، ولا يخجلون من أنهم يتخطون دائماً، دائماً، كل حدود ممكنة، من الحد الاخلاقي، نزولاً.

سيظل زياد بارود في هذا السوق غريباً، وستظل تجربته بلا أفق. تجربة مواطن عادي جاء إلى السلطة وليس معه إلا كفاءته وعناده، ومفاهيمه «المبهمة» للعمل السياسي تجعله كالآتي من كوكب آخر، يحكي ما يعجز السياسيون حتى عن ترجمته، مع أن لا أحد كان بمثل وضوحه مذ حمل حقيبة الداخلية. وهو حاول تخفيفها من كل الأثقال فيها، بدءاً من مفهوم الوزير نفسه، الذي أزال عنه وصمة فتوة الحارة، إلى مفهوم الضابط الذي لا ينتقص من نجومه أن يكون شاباً مدنياً مثل زياد بارود رئيسه ما دام الوزير يقف عند واجباته وحقوقه، ولا يطالب الضابط بأكثر من واجباته ولا يكسر له حقاً من حقوقه.

لم يفشل زياد بارود في مهمته كوزير للداخلية، لكنه، مذ قرر أن يكون إلى هذه الدرجة شفافاً، مشى في الطريق التي ليس في آخرها إلا هزيمة مدوية أعلن عنها في يوم وزارة الاتصالات المثير للغثيان.
هُزم المواطن زياد بارود كوزير للداخلية، ولم يفشل. لم يكن ينتظر أن يقبل بكل هذه المدنية إلى عمله، فيجد نفسه في وسط حرب طرفاها قررا أن يكونا ضده. وكان يمكن لبارود أن يتدارك نفسه، ويستعين بما يستخدمه الآخرون من أدوات. آثر ألا يفعل. لو فعل، لو انزلق إلى حروب السياسيين اللبنانيين التي لا تنتهي، ولعب بألعابهم القذرة، لتلاشى معنى أعوامه القليلة في الداخلية. وهو خرج منها على خصومة، بل على عداء، مع كل الاطراف، لكنه فرض عليهم كلهم احترامه كمواطن عادي، في سابقة ربما، من تاريخ هذا البلد الغريب.

هُزم زياد بارود، وكان يجب أن يُهزم. كان على العنصر المسلح بالثياب المدنية أن يهزمه، وعلى الضابط الكبير أن يهزمه بأن يعصي أمره، لأن بارود لن يفيده قبل تقاعده ولا بعده، كما سيفيده زعيمه الطائر. وكان على الزعيم الغاضب أن يهزمه، ليثبت أن التغيير والإصلاح اختراع يحمل وحده براءته. وكان عليهم جميعاً أن يهزموه كي يتحرروا من تجربة يفضلون لو أنها لم تكن.

هُزم زياد بارود؟ هو لم يعلن هزيمته. قال قوله ومشى. خرج من الوزارة كما دخلها، مواطناً عادياً ترفّع عن بركة الوحل وعن التخبط فيها. ولم ينزلق إلى معالجة الخطأ بالخطأ.
في بيان إعلانه عن حريته، أعطى السياسيين درساً في معنى أن ينسحب السياسي حفاظاً على احترامه لنفسه. وأعطاهم، قبل ذلك، درساً في أن يكون الواحد مواطناً. وأن يكون زياد بارود المواطن الأخير في هذه الجمهورية فهو انتصار لن يسلبه منه أحد.

السابق
النهار: “اليونيفيل” بعد الأستونيين السبعة في مرمى الانتقام
التالي
عندما أحرق السوريون صور نصر الله