ربيع سوريا يضع تركيا في مأزق

خلافا للوضع في تونس ومصر، واجهت تركيا تحديات جديّة وصعبة وخطيرة في مواكبة التطورات في ليبيا وسوريا والبحرين واليمن. فقد وافقت أنقرة على قرار مجلس الأمن الدولي الخاص بليبيا، ولكنها اعترضت على مبدأ شن ضربات عسكرية (جوية أو برية) ضد العقيد معمر القذافي من دون إجماع أطلسي، كما اعترضت على تسليح المعارضة.
أدى الموقف التركي لردود فعل عنيفة لدى المعارضة الليبية التي تظاهرت أمام القنصلية التركية في بنغازي، فيما شن ممثلوها هجوما عنيفا على سياسات أنقرة عبر الفضائيات العربية المختلفة. لكن أنقرة حرصت على أن تبقى على تواصل دائم مع كل من المعارضة والعقيد القذافي في آن، بهدف تحقيق التوازن بين الطرفين إيمانا منها بأن ذلك قد ينهي الاقتتال الداخلي الذي يبدو أن الغرب مصمم عليه. وهو ما يثبت التغيير المفاجئ في موقف أنقرة التي اعترفت فجأة بالمجلس الانتقالي، وذلك بعد لقاءات أجراها رئيس المجلس مصطفى عبد الجليل في أنقرة مع الرئيس التركي عبد الله جول، ورئيس وزرائه رجب طيب أردوغان في العاصمة التركية يوم الاثنين الماضي.

إنقاذ المصالح الاقتصادية
كان الاعتراف بالمجلس الانتقالي على الملأ بمنزلة تسجيل «موقف واضح» من حكومة أردوغان التي يبدو أنها لم تقبل الخسارة الاقتصادية المحتملة في ليبيا، كما هي رجحت البقاء على الخط لضمان علاقاتها المستقبلية مع النظام الجديد، الذي يبدو أنه سيكون ذا ميول وملامح إسلامية معتدلة وفق التقارير الأولية من بنغازي.
و{قرار الاعتراف} لم يكن سهلا بالنسبة لحكومة أردوغان. فهناك من يرى فيه «نكران للجميل» تجاه النظام ورئيسه. فالعقيد القذافي كان الزعيم الوحيد الذي وقف الى جانب تركيا، عندما تدخلت عسكريا في قبرص في عام 1974. كما أن الزعيم القذافي يفتح أبواب بلاده وأسواقها (منذ العام 1977) أمام مختلف الشركات التركية التي نفذت المئات من المشاريع بمليارات الدولارات. فلطالما كان للعلاقات التركية- الليبية (السياسية والاقتصادية على حد سواء) وضع خاص في الحسابات التركية الإقليمية التي يبدو أنها تجاهلت كل هذه الحقائق، عندما قررت الانحياز الى المعسكر الغربي في مقاتلة القذافي ونظامه.
ومثل هذه الشراكة كانت أحد الأسباب التي دفعت أنقرة لعدم الاهتمام بشكل مباشر بتطورات اليمن الأخيرة على الرغم من مساعيها للتدخل في تطورات البحرين، حيث أغلقت هذا الملف بعد تدخل السعودية هناك. ويذكر الجميع كيف أن تصريحات أردوغان كانت قد أدت آنذاك الى ردود فعل مختلفة، عندما قال: «إنهم لا يريدون أن يروا كربلاء جديدة». وكان أردوغان لا يقصد الحرب الطائفية في البحرين، بل أراد الإشارة الى خطورة الاقتتال الطائفي في المنطقة عموما.

سوريا.. التحدي الأخطر
وجاءت تطورات سوريا لتضع الدبلوماسية التركية أمام تحديات أكثر خطورة، حيث وجدت أنقرة نفسها بين سندان الصداقة الشخصية مع الرئيس السوري بشار الأسد، ومطرقة العلاقات الدولية والحسابات العاطفية، والمقصود بها المشاعر الدينية.
فقد تعرض أردوغان لضغوط من التيار الإسلامي الحزبي والشعبي العام، وكذلك الإعلامي الذي أراد أن يستغل أحداث سوريا في حملته ضد أردوغان، ليقول له: «انظر هذا هو صديقك الأسد الذي تحبه وتدافع عنه، فهو يقتل شعبه». وهذا ما قالته وتقوله العواصم الغربية لأردوغان الذي تحدث أكثر من مرة عن تحذيراته وضغوطه على الأسد في موضوع الديموقراطية والإصلاح.
كل هذه الأجواء أدت لردود فعل عنيفة لدى الأسد والقيادة السورية، بل وحتى الشارع الشعبي السوري (باستثناء الإسلاميين) عموما، حيث لا يخفي استياءه من موقف أردوغان الذي كان السوريون يرون فيه صديقا وأخا يوثق به بشكل مطلق.
ويبقى الرهان على موقف أردوغان بعد تصريحاته المتتالية التي انتقد فيها النظام السوري، خصوصا ما يتعلق منها باستخدام القوة المفرطة والقمع ضد المتظاهرين. وهو لم يتأخر عن التعبير عن غضبه الواضح لرفض الأسد توصياته بضرورة اتباع نهج الحوار والإصلاح لإنقاذ البلاد والنظام من الضغوط الداخلية والخارجية التي تهدف لتضييق الحصار على الأسد شخصيا في موضوع الإصلاح والديموقراطية منذ فترة طويلة.

المعضلة الكردية
ويعرف أردوغان أن موضوع سوريا يختلف تماما عن ليبيا، وعلى الرغم من صعوبة القرار هناك أيضا. ولم يخف أردوغان قلقه من احتمالات انفجار الوضع الأمني في سوريا، كما هي الحال في ليبيا، لأن مثل هذا الوضع سينعكس على تركيا مباشرة التي ستتحول حينها لطرف مباشر أو غير مباشر للأزمة السورية، باحتمالات المواجهة الطائفية أي العلوية– السنية التي يراهن عليها كثيرون. حيث أن تركيا السنية يعيش فيها أكثر من عشرة ملايين نسمة ينتمون للطائفة العلوية، بينهم أكثر من مليون لهم أقرباء للعلويين في سوريا، ولأنهم يعيشون في منطقة اسكندرون. كما لا تخفي تركيا مخاوفها وقلقها من أن يستغل أكراد سوريا الوضع الأمني، ويعلنون تمردهم على الدولة السورية، وهو ما قد يشكل خطرا على الأمن الوطني والقومي التركي. ولأن المنطقة الكردية الممتدة على طول الحدود الشمالية الشرقية لسوريا مجاورة لشمال العراق الكردية، وجنوب شرق تركيا التي يتوقع لها كثيرون أن تواجه تطورات، وربما حركات تمرد خطيرة بعد الانتخابات البرلمانية التركية المقررة يوم 12 يونيو المقبل، وهو ما هدد به زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان إذا لم يلب أردوغان مطالب الأكراد في الحكم الذاتي وإطلاق سراحه.
ويضع مثل هذا الاحتمال السياسة والدبلوماسية التركية أمام التحدي الأكبر، لأن أكراد تركيا سيقولون لأردوغان- كما يرددون اليوم- «إنك تؤيد الديموقراطية والإصلاح في الدول العربية، وخصوصا الجارة سوريا فلماذا لا تعترف بارادة الشعب الكردي في تركيا الذي يطالب بحقوقه الديموقراطية»؟!

بوابة الدخول والخروج
وقد يجد مثل هذا الحديث تأييدا أوروبيا ودوليا، يضع أنقرة أمام تحديات إضافية في سبيل انضمامها للاتحاد الأوروبي. ومثل هذه التحديات قد تجبرها على الخضوع لمزيد من المساومات التي تمارسها العواصم الغربية التي قد تفرض عليها سياسات معينة في موضوع إيران، على وجه الخصوص، وهو الاحتمال الذي يراهن عليه كثيرون في حال تسلم الإخوان المسلمون أو التيار الإسلامي الحكم في كل/ أو أي من مصر وتونس وليبيا وسوريا.
وحزب العدالة والتنمية التركي الحاكم، ذو الأصول الإسلامية، قد يرتاح لمثل هذا التحول الاستراتيجي، ما قد يدفعه لمزيد من التعاون مع هذه الدول السنية ضد إيران الشيعية التي لا يعرف أحد كيف سيكون رد فعلها على هذه الحسابات التي يبدو أن تركيا ستكون من أهم محاورها، سلبا كان أم إيجابا، طالما أن الغرب سعى ويسعى منذ فترة طويلة لتصدير التجربة العلمانية الديموقراطية التركية بملامحها الإسلامية المعتدلة الى دول المنطقة التي إن تقبلتها، فالرياح ستجري كما تشتهي سفن أردوغان. أما إذا لم تتقبلها، فستعود بالدبلوماسية التركية الى نقطة الصفر، أي إعادة الأوضاع الى ما كانت عليه قبل 8 سنوات، عندما تسلم حزب العدالة والتنمية السلطة عام 2002. ففي ذلك الوقت كانت سوريا هي مدخل الدبلوماسية التركية الى المنطقة. والأوضاع اليوم تشير الى أن سوريا قد تكون أيضا نقطة الخروج لهذه الدبلوماسية من المنطقة. وهذا ما حدث في التاريخ القديم عندما كانت دمشق بوابة عبور العثمانيين الى العالم العربي في عام 1516، وأيضا بوابة الخروج من ذلك العالم بعد 400 عام.

السابق
آشتون: الأحداث الراهنة تفرض شراكة عربية أوروبية جديدة
التالي
نتانياهو وحربه الحدودية