أميركا ــ باكستان: معركة الاستخبارات

علاقة الاميركيين بالاستخبارات الباكستانية معقدة، فهي شريك وخصم في آن واحد، وذلك نظراً الى الصلات الخاصة التي تربطها بالجماعات الاصولية في باكستان ومحيطها. قبل "التعاون" في عملية تصفية بن لادن نشرت "الفايننشال تايمز" التقرير التالي عن هذه العلاقة المضطربة.
الذكريات في السفارة الأميركية في إسلام أباد قديمة وغير سعيدة. يرتعد المسؤولون فيها عندما يتذكّرون الروايات عن اقتحام بعثتهم وإحراقها بالكامل عام 1979. شنّ متشدّدون الهجوم بعد بث تقرير إذاعي إيراني زعم بنية سيئة أن الولايات المتحدة هاجمت مدينة مكة المكرّمة. ولو لم يختبئ الديبلوماسيون المذعورون في الملجأ، لما تمكّنوا من النجاة.
وهذه السنة، أذكى توقيف رايموند ديفيس في لاهور، وهو موظّف في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أيه) وجندي سابق في القوات الخاصة، المخاوف القديمة وسط معمعة الاحتجاجات المناهضة لأميركا. وكشف النقاب أيضاً عن الخلافات بين "السي آي أيه" وجهاز الاستخبارات الباكستانية.
يبدو أن الوكالتَين اللتين وجدتا قضيّة مشتركة في الحرب الأفغانية-السوفياتية في الثمانينات ولاحقاً في ملاحقة المشتبه بانتمائهم إلى تنظيم "القاعدة" بعد الهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة عام 2001، تتباعدان أكثر فأكثر في موقفهما من محاربة التطرّف الإسلامي.
مديرية الاستخبارات هي "الدولة العميقة" في باكستان، وقد قاومت السيطرة المدنية عليها وبنت تحالفات مع المجموعات القتالية منذ وقت طويل. تعمل من طريق اللجوء إلى التهديد وتفيد من شبه إفلات من العقاب. بيد أن تعاونها مع الوكالات الاستخبارية الغربية يُعتبَر أساسياً لتحقيق استقرار أكبر في المنطقة، وإنهاء الحرب الأفغانية، وفهم أفضل للإرهاب العالمي.
والاستخبارات الباكستانية التي يحتفي بها البعض في باكستان معتبرين أنها العمود الفقري لأمن البلاد، هي محط كره من البلدان المجاورة التي ترى أنها تقف خلف الهجمات على الهند وأفغانستان وربما أبعد من ذلك.
لجهاز الاستخبارات الذي تأسّس بعيد إنشاء باكستان عام 1947 وجود في مختلف أنحاء المجتمع، فهو يرصد التطوّرات من القيادة العليا والهجرة إلى المخبرين الصغار الذين يراقبون ردهات الفنادق. وتعتبر النظرة السائدة إلى الاستخبارات الباكستانية التي غالباً ما توصَف بأنها "دولة داخل الدولة"، أنه لا شيء تقريباً يحدث من دون علمها وموافقتها.
وللمديرية التي تقع تحت سيطرة الجنرال أشفق برويز كياني، قائد الجيش، سلطة محلية ودولية ساعدت الجيش على إحكام قبضته على البلاد على مر العقود. وقد أدّت دوراً في تدريب المقاتلين ودعمهم في أفغانستان خلال الاحتلال السوفياتي، وكذلك في تدريب المتمرّدين في كشمير ودعمهم. وشجّع الحكم العسكري خلال الجزء الأكبر من تاريخ باكستان القصير، جناحها السياسي على توسيع دوره كثيراً في الشؤون الداخلية بهدف فرض التعاون على السياسيين البارزين.
أثارت الحادثة التي وقعت في كانون الثاني الماضي، والتي تقرّ واشنطن أن ديفيس أطلق النار خلالها على مسلّحَين باكستانيين وأرداهما، شكوكاً قويّة بأن
باكستان مليئة بجواسيس أميركيين يقومون بـ"عمل الشيطان". يصرّ المسؤولون الأميركيون على أن ديفيس لم يكن أكثر من متعاقد مع "السي آي أيه" يوفّر الأمن للموظّفين المحليين والشخصيات البارزة التي تزور البلاد. لكن على الرغم من النفي الأميركي، تقول الروايات على لسان عسكريين كبار متقاعدين في الجيش الباكستاني إنه كان جاسوساً كبيراً يدير 3000 عميل تابعين لوكالة "السي آي أيه".
قبل عامين، أوردت الصحف المحلية في خبر أثار موجة مماثلة من الخوف، أن "بلاكووتر"، وهي شركة أمنية أميركية، تتهافت لشراء ممتلكات في إسلام أباد لإيواء دفق كبير من موظّفي الأمن الأجانب.
يقول وزير الداخلية الأسبق معين الدين هايدر "نظرة الرأي العام هي أن باكستان تواجه تحدّيات أمنية متزايدة من الولايات المتحدة، ربما بمساعدة من بعض الأفغان والهنود. وفي هذه الحالة، من الممكن أن جهاز الاستخبارات الباكستانية أصبح أكثر أهميّة" كوسيلة دفاع ضد الولايات المتحدة.
تقول واشنطن إن ديفيس يتمتّع بحصانة ديبلوماسية وتطالب بالإفراج عنه فوراً. بيد أن المؤسسة الأمنية الباكستانية – التي أزعجها جداً أن "السي آيه أيه" تعمل على أرضها بعيداً عن نطاق سيطرتها – تسعى إلى جعل حليفتها تدفع الثمن الأقصى قبل تحرير ديفيس. تصرّ "السي آي أيه" على أنها تعمل عن كثب مع نظرائها الباكستانيين "على مجموعة واسعة من التحدّيات الأمنية، بما في ذلك معركتنا المشتركة ضد القاعدة وحلفائها الإرهابيين".
بالفعل، لا تزال باكستان تأذن لـ"السي آي أيه" إطلاق هجمات بواسطة الطائرات غير المأهولة وشنّها ضد أهداف غرب باكستان. بيد أن الأهمية الاستراتيجية لهذا الأمر تكمن أيضاً في أن الولايات المتحدة تعتمد على إسلام أباد – وجواسيسها – أكثر من أي وقت آخر.
تعتبر باكستان أن ما يُسبّب الإحراج الشديد لـ"السي آي أيه" هو لعبة النفوذ التي تهدف إلى جعل الاستخبارات الباكستانية تضاهي شريكتها الأميركية، ويشكّل هذا الإحراج جزءاً من نمط مألوف تستعمله باكستان لانتزاع الدعم من واشنطن.
يقول البعض داخل المؤسسة الأمنية في الهند إن الاحتكاك الأخير ليس مفاجئاً. فهم يعتبرون أن الاستخبارات الباكستانية تقرّبت من الاستخبارات الصينية في الأعوام الأخيرة، فيما تتباعد الروابط مع الولايات المتحدة أكثر فأكثر.
تنشر الاستخبارات الباكستانية ظلاً مترامياً جداً إلى درجة أن المسؤولين المدنيين يتحدّثون عنها بصوت مكتوم ولهجة تتوجّس خوفاً. وصفها وزير الخارجية شاه محمود قرشي الذي جرى الاستغناء عن خدماته منذ فترة قصيرة، وهو سياسي مقرَّب من الجيش، بأنها "مؤسسة وطنية قيِّمة".
واستخدم الرئيس آصف علي زرداري التشبيه بالأقراط الثقيلة لوصف العبء الذي تحمله باكستان على كاهلها من خلال دعم الاستخبارات للمقاتلين. الإشارات الواضحة إلى الاستخبارات الباكستانية في الداخل نادرة؛ يخشى الصحافيون تعرّضهم للانتقام إذا ناقشوا نشاطاتها.
أنشأ الوكالة الميجور جنرال آر كوثوم، وهو ضابط في الجيش البريطاني خدم في باكستان وأصبح المدير الثاني للاستخبارات الباكستانية. وقد تعرّضت في سنواتها الأولى لانتقادات كثيرة بسبب الإخفاقات التي أحاطت بحرب باكستان مع الهند. وحتى الآن، لم يستوعب الجيش بعد الإخفاق الاستخباري في كشف التدخّل العسكري المفاجئ الذي نفّذته الهند في باكستان الشرقية سابقاً عام 1971 وأدّى إلى قيام بنغلادش.
تحسّنت حظوظ الوكالة عندما بدأت، في ظل الحكم العسكري، تراقب المشهد السياسي في باكستان. لكنها بلغت مرحلة الذروة – وبنت روابط دولية – عند نهاية الحرب الباردة، عندما قدّمت الدعم لمجموعات قتالية في سياق المحاولة التي دعمتها الولايات المتحدة لطرد القوات الروسية من أفغانستان.
يقول حسن عسكري رضوي، وهو عسكري وباحث أمني "تعزّز نفوذ جهاز الاستخبارات الباكستانية خلال الحرب الأفغانية. فمن خلال التعاون الوثيق مع وكالات الاستخبارات والجيوش الأجنبية، أصبحت الاستخبارات الباكستانية نافذة للغاية. ولا يزال نفوذها كما هو".
في التسعينات، وعلى الرغم من تعاقب حكومات مدنية على الحكم في باكستان، ظهرت الاستخبارات الباكستانية التي تولّى إدارتها تباعاً جنرالات في الجيش برتبة فريق، بأنها صانعة الملوك الأبرز في البلاد.
على الرغم من أن المسؤولين يقولون إن المديرية تخلّت الآن عن أي دور رسمي في السياسة، يعتبر المحلّلون أنها تبقى عنصراً أساسياً في تحديد المصالح الباكستانية في مجالَي الأمن والسياسة الخارجية.
يتباهى مسؤولون كبار آخرون بالروابط التي تقيمها الاستخبارات الباكستانية مع قوى تراوح من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى الصين والسعودية. يعتبرون أن وكالتهم كانت فاعلة جداً في القبض على مقاتلي "القاعدة" حتى مع استمرارها في دعم مجموعات إسلامية أخرى. فعلى الرغم من النفي الرسمي، يشتبه الديبلوماسيون بأن الاستخبارات الباكستانية واصلت دعم حركة "طالبان" الأفغانية في حربها ضد قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو).
يقول أحد المسؤولين "في العقد الماضي، تعاونّا مع 50 وكالة استخبارية من مختلف أنحاء العالم، وهذا يفوق الدعم الذي قدّمته أي وكالة أخرى. وقد ساهمنا في توقيف ما يزيد عن 700 مقاتل ينتمون إلى تنظيم القاعدة وبينهم عناصر بارزون مثل خالد شيخ محمد (مخطّط الهجمات على الولايات المتحدة). وقدنا أيضاً العمليات التي أدّت إلى توقيف أكثر من 600 مقاتل في حركة طالبان. هل من وكالة أخرى حقّقت نجاحاً مماثلاً؟".
يقول أحد المسؤولين في جهاز الاستخبارات إن الوكالة تريد الحفاظ على علاقاتها مع "السي آي أيه" إنما على أساس "شراكة قائمة على قدم من المساواة"، مضيفاً "لا تدعونا نبدو وكأننا مغفّلون في عيون شعبنا. ساعدونا على خوض هذه الحرب بدلاً من الالتفاف علينا".
بالنسبة إلى كثر، لقد تحوّل دور جهاز الاستخبارات الباكستاني من الاستخبارات المضادّة أو مكافحة التجسّس إلى إثارة المشكلات في المنطقة وإقامة روابط مع جماعات قتالية مثل "عسكر طيبة" وشبكة "حقّاني" في أفغانستان اللتين تتمتّعان الآن بدرجة من الاستقلال الذاتي. بيد أن بعض الديبلوماسيين الغربيين المعجبين بالأسلوب المباشر للجنرال باشا، يميلون إلى تبرئة ساحة الاستخبارات الباكستانية لعدم وجود أدلة كافية تدينها. فهم يعتبرون أن الاتصالات الكثيفة الجارية بين جهاز الاستخبارات الباكستانية والمجموعات القتالية ليست تعاوناً بقدر ما هي محاولة لإحكام السيطرة من جديد. يقول أحدهم "يعرف الناس جيداً أن الجيش وجهاز الاستخبارات يديران اللعبة في البلاد. لهذا من المهم استمالتهما. قد يكون جهاز الاستخبارات الباكستاني جزءاً من المشكلة، لكن يمكن أن يكون أيضاً جزءاً من الحل".
بغض النظر عن مصير ديفيس، لقد أثبت السجال العلني حول مسألة تندرج عادةً في خانة السرّية الشديدة أن الشراكة لم تعد كما كانت عليه في نهاية الحرب الباردة وهي الآن "أقل من ودية".
تفضّل الاستخبارات الباكستانية العقل على القلب. يقول طارق فاطمي، وهو ديبلوماسي باكستاني سابق "على الرغم من أن الأميركيين يملكون ربما أفضل الاستخبارات وينشرون عدداً كبيراً من الأشخاص في باكستان، يبدو أنهم لا يعرفون شيئاً. لا يمكن ببساطة أن ينجح الأميركيون من دون شراكة مع الاستخبارات الباكستانية"
ترجمة نسرين ناضر- النهار

السابق
علي فخرو: البحرين لا تتحمل صراع السعودية وإيران
التالي
“سكايز” يحتفل بيوم حرية الصحافة العالمي