حرب الحرية في أوروبا

لطالما كانت أخبار موت الجنود الأمريكيين-على مرّ العقود الماضية – الذين شاركوا في الحرب العالمية الأولى تتوالى وكأنها "أصوات مكتومة" على حسب تعبير المؤرخ مارتن غيلبرت، وبوفاة "فرانك بالكلز"، آخر الجنود الأمريكيين المشاركين في الحرب العالمية الأولى، تكون الأصوات قد كتمت نهائياً لتبقى وحدها الذاكرة ودروس التاريخ، فما جرى في الحرب الأولى ظل غامضاً يلفه النسيان بسبب طغيان أحداث الحرب الثانية التي مازالت صورها أكثر حضوراً.

ويعكس هذا الغموض ما يشعر به طلبة المدارس اليوم وهم يتلقون دروسهم حول الحرب العالمية الأولى فيصابون بالدهشة والذهول وهم يواجهون تساؤلات كتلك التي طرحها "أندرو روبرتس": "لماذا يتعين على رجل من سكان نيوزيلندا الأصليين أن يموت في تركيا ويدفن في اليونان لأن أميراً نمساوياً قتله صربي في البوسنة؟".

والحقيقة أن الحرب العالمية الأولى لم تكن سوى صورة مصغرة لما ستكون عليه الحرب اللاحقة على ظهور الأسلحة الرشاشة وقصف المدنيين وحرب الغواصات التي لا تخضع لأي ضابط، واستخدام الغازات لأول مرة في الحروب، وهي أساليب وتكنولوجيات مسخرة للقتل الجماعي استلهمت تقنياتها من وسائل الإنتاج الجماعي في الصناعة والمعامل وسحبها على قتل البشر بشكل جماعي ودون استهداف معين، ليتحول الموت إلى عملية ميكانيكية، كما أن الحرب العالمية الأولى شهدت ولادة أسوأ الأفكار.!

وقد أرسلت الحكومة الألمانية "فلاديمير لينين" في ذلك الوقت، على متن قطار مغلق من زيوريخ إلى روسيا لزعزعة استقرار عدوها اللدود، فيما تعهد هتلر الذي كان وقتها جندياً يخوض الحرب في الخنادق بالانتقام لهزيمة ألمانيا المذلة، ومن بدايات صغيرة انطلقت شرارة الحرب العالمية الأولى التي غيرت تاريخ الإنسانية، وفيما بدا أن القارة العجوز تعاني من الانهيار النفسي، كانت قوة أخرى تتهيأ للظهور والصعود إلى القمة، وليس الانهيار النفسي وانعدام التوازن أمراً غريباً على أوروبا لما لاقته من أهوال الحرب وفظاعاتها بعدما سقط أكثر من مليون بريطاني وقتل 35 في المئة من الرجال الفرنسيين الذين كانت نسبتهم مقارنة بالنساء 19 رجلاً لكل 22 امرأة لتخرج فرنسا من الحرب بأكثر من 630 ألف أرملة، كما كان للمأساة وقع سلبي على المؤسسات الليبرالية والدستورية في أوروبا التي ضعفت بسبب الحرب وانتعشت مكانها الأفكار الفاشية، كما تعرضت فكرة التقدم البشري نفسها لانتكاسة، حيث بدت مبادئ مثل المجد والشجاعة عديمة الجدوى في خضم صور الحرب والجثث الملقاة على الأسلاك الشائكة، فكان أن ساد الشك والسخرية السوداء.

وفي مقابل ذلك كله، كانت الولايات المتحدة تبدأ مرحلة المراهقة لتتحول المأساة الأوروبية إلى لحظة الوصول الأمريكية، ففي الوقت الذي لم يكن الجيش الأمريكي يتجاوز 100 ألف جندي مطلع عام 1917، ولم يخض معركة كبرى منذ انتهاء الحرب الأهلية، ارتفع عدده في آب 1918 إلى مليون جندي منتشرين في مختلف ربوع أوروبا.

ويتذكر الجندي الأخير "فرانك باكلز" كفرد من "الجنود المتحمسين"، في جيش خلف انطباعاً عن الأمريكيين كمندفعين ومندهشين من كل ما يرونه في أوروبا، وقد كتب "جون كيغان" عما سيلاقيه الألمان قائلاً: "سيواجه الألمان اليوم جنوداً متحمسين
وكأنهم يولدون من هذه الأرض". وفيما كان البريطانيون والفرنسيون يشككون في قدرة الجنود الأمريكيين على إحراز النصر، كان الأمريكيون ينظرون إلى أنفسهم كمنقذين جاؤوا لينظفوا مخلفات حضارة عليلة.

هذا واعتقد الأوروبيون لفترة طويلة أن الأمريكيين احتكروا الفضل رغم تضحياتهم المحدودة التي لم تتجاوز 50 ألف قتيل خلال الحرب، فيما سقط 20 ألف بريطاني في اليوم الأول فقط من الحرب، وقد تكرر هذا الانطباع حتى مع كبار المفكرين مثل "جون مينار كينيز" الذي وصف الرئيس ويلسون بأنه "دون كيشوت أعمى وأصم"، بينما جادل هذا الأخير بأنه "إذا أدارت أمريكا ظهرها للإنسانية فلن تجد مكاناً آخر تلجأ إليه". ومع أن أمريكا تعرضت لإحباطاتها الخاصة في العقود اللاحقة عندما فشل مشروع عصبة الأمم، فإنها لم تفقد روحها التي دفعتها إلى التوغل في غابات أوروبا لتخوض حرباً بعيدة عنها، ولتعيد الكرة مرة أخرى يوم الإنزال الكبير بنورماندي في الحرب الثانية ولتلتزم بحماية أوروبا خلال الحرب الباردة.

ورغم ما تواجهه أمريكا اليوم بسبب الأزمة الاقتصادية التي زرعت الشك في نفوس الأمريكيين وولدت رغبة لدى البعض الآخر للتحول ببلادهم إلى مجرد أمة بين باقي الأمم، مازالت أمريكا بروحها ومبادئها التي جعلتها تحارب من أجل الحرية في أوروبا قادرة على إنجاب أبناء من طينة "فرانك باكلز"، لكن هل واشنطن فعلاً ومن يصنع سياساتها ما زال يعيش روح ومبادىء الحرية الأمريكية؟!!
ترجمة سامر الخير -البعث)

السابق
رغم كل محاولات الفتنة في المنطقة.. شرق أوسط جديد معاد لتل أبيب
التالي
التدخل الغربي في ليبيا: خيانة للثورة السلمية