الانتفاضات العربية تثبت أن التاريخ لم ينته

يصارع الأميركيون دوراً غير مألوف. فقد اعتادوا إدارة الأمور ـــ لا سيما حين تتضمن تلك الأمور خوض الحروب، لكن الأمر مختلف هذه المرة. فبينما تجوب طائرات الغرب النفاثة أجواء ليبيا، أبلغ الرئيس باراك أوباما جنرالاته ودبلوماسييه أن يتراجعوا. وأُرينا المشهد الجيوسياسي الجديد. يجد الأوروبيون ـــ أو على الأقل الفرنسيون والبريطانيون ـــ هذا الأمر غريباً عليهم.ووضع نيكولا ساركوزي وديفيد كاميرون نفسيهما في طليعة دبلوماسية إيقاف هجوم معمر القذافي. وحين دخل أوباما السباق في النهاية ربط ذلك بشرط: إذا كنتما تريدان ذلك الأمر فلتأخذاه. لقد مضى أكثر من نصف قرن على إقدام باريس ولندن على مغامرة عسكرية معاً في هذا الجزء من العالم. وكانتا في ذلك الحين تتحركان لإثبات أنهما ما زالتا قوتين عظميين. غير أن دوايت إيزنهاور أوقف ذلك سريعاً. أما الآن، فإن واشنطن تتمنى لحليفتيها التوفيق. ومن سوء الحظ أن المهمة الليبية، شأنها شأن مهمة السويس، يمكن كذلك أن تكون ذات نهاية غير مريحة. قيل لي إن الدبلوماسيين الأميركيين يعانون التكيف مع إبعادهم عن المسؤوليات.
فقد اعتادوا القيادة في الاتجاه الذي يختارونه بينما يتبعهم الآخرون. وكان الأمر الطبيعي: الأميركيون ينجزون والأوروبيون يتحدثون. ولم تكن واشنطن تنتظر باريس ولندن. لا بد أن يكون الجلوس في المقعد الخلفي صعباً بصورة خاصة على القادة العسكريين الأميركيين. والحقيقة أن قادة أوباما العسكريين لم يكونوا متحمسين لهذه العملية. لكن رغم كل هذه الجلبة حول كون هذه المهمة أنكلو ـــ فرنسية (فرنسية ـــ إنكليزية إذا كنت في باريس)، فإن الجيش الأميركي قدم معظم معداتها.
مع ذلك، أوباما واضح بخصوص المرحلة المقبلة. فإذا كان لا بد من القوة العسكرية الأميركية لإنشاء منطقة الحظر الجوي، فعلى فرنسا، وبريطانيا، وإسبانيا، وإيطاليا، وبقية دول التحالف إدارة ذلك. فليس بإمكان أميركا حل كل مشاكل العالم، كما قال في نهاية الأسبوع.
والسياسة المحلية في الولايات المتحدة تتحدث عن نفسها. فالرئيس أوباما لم يفز بالرئاسة بناء على وعد بإشعال حرب ثالثة في الشرق الأوسط. وعليه الآن ضمان الفوز بفترة رئاسية ثانية، وهو يريد أن يركز على إصلاح حال الاقتصاد المحلي. إن الخطأ الذي يمكن أن يقع فيه حلفاء أميركا هو أن يروا أن هذا الأمر عملية اختيارية، وممارسة للحياء، وابتعاد عن طريق الحق ـــ استجابة إلى قائمة فريدة من الظروف والحساسيات الإقليمية.
والأمر الأقوى احتمالاً هو أنه يشير إلى تحول هيكلي في التوازن الجيوسياسي. تظل الولايات المتحدة القوة العالمية التي لا بديل لها، لكنها تصبح أكثر تحفظاً. وفهمت إدارة أوباما أن كونك لا بديل لك، لا يعني أن لديك القوة الكافية. وسبق للرئيس ولوزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون، أن قالا قبل فترة طويلة من الأزمة الليبية إن أفضل طريقة يمكن للولايات المتحدة أن تمارس نفوذها من خلالها هي عن طريق الأحلاف، والشبكات، والتحالفات، والمؤسسات متعددة الجنسيات. والجانب السالب من هذا التحليل هو أنه يتوقع الأكثر من جانب شركائها. ربما يكون من اللطيف القول إن أوروبا ارتقت إلى مستوى التحدي دون انقسام. لكن ذلك يتجاهل الحقيقة غير المريحة بأن ألمانيا امتنعت عن التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي الخاص بفرض منطقة الحظر الجوي. وظل الخلاف الشديد بين باريس ولندن بادياً للعيان أمام الجميع منذ ذلك الحين.
رأت برلين في رهان ساركوزي على القيادة الدولية إجراء ذا جانب شخصي في الترويج للذات قبل الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة. أما في باريس، فالاتهامات توجه إلى أنجيلا ميركل بأنها تحول ألمانيا إلى سويسرا كبرى بينما تهرب إلى الأبد خوفاً من الناخبين. ويشير بعض الدبلوماسيين الأوروبيين إلى الأمر بشكل أقل لطفاً، بتلميحهم إلى أن ميركل من خلال اتخاذها جانب الصين، وروسيا، والهند، والبرازيل، في ذلك التصويت، فإنها تحرس وتضمن أربع أسواق رئيسة للصادرات الألمانية. والحقيقة هي أن المصالح الأوروبية كان يمكن أن تُخدم على نحو أفضل لو كان ساركوزي أقل تهوراً، ولو كانت ميركل أكثر استعداداً للإنفاق من الرصيد السياسي، بدلاً من أن تكتنزه. وعلى الرغم من أن ساركوزي وكاميرون عملا بصورة أوثق على الصعيد الدبلوماسي، إلا أن لديهما خلافاتهما كذلك. وقد أثار إصرار الولايات المتحدة على تسليم قيادة العملية الليبية الحجج القديمة حول العلاقة بين الدفاع الأوروبي وحلف الناتو. إن لدى الفرنسيين نقطة مهمة بقولهم إن الإشراف السياسي على هذه المهمة يجب ألا يتجاوز البلدان الغربية الأعضاء في حلف شمال الأطلسي. لكن الاعتراضات العقائدية على جعل القيادة العسكرية والسيطرة في يد الناتو أظهرت الجانب الطفولي للدبلوماسية الفرنسية.
بكلمات أخرى، كان الأوروبيون يدّعون أن التاريخ انتهى العام 1989. لكن الانتفاضات العربية ذكرتهم بأن الأمر ليس كذلك. وكان الدرس المستفاد من الإخفاق التام في السويس هو أن بريطانيا وفرنسا لا يمكنهما تحدي القوة الأميركية. أما رسالة الحملة الليبية، فهي أنه ليس بوسعهما أن تعتبرا القوة الأميركية أمراً مسلماً به.

السابق
الحريري تستغرب تسييس النفايات في صيدا
التالي
التفاف حول سوريا جنّبها القطوع