آل الأمين… جددوا ويُجددون

ما من مذهب فقهي أو فكري يستغني عن التَّجديد، لأنه مع تقدم الحياة الهائل يصعب الثبات على ما قبل ألف عام ويزيد. لا نتحدث عن العبادات بالنسبة للمذاهب الفقهية، فهي لا تجديد فيها إلا بحدود ما يتماشى مع روح العصر، ونجد في فقه المغتربين لأكثر من مجتهد ما يمكن توصيفه بالتَّجديد، فيما يتعلق بالسَّفر والاختلاط وسواهما. لكننا نتحدث عمَّا ثبت في الأذهان من ممارسات ورؤى سياسية حجمت مدرسة آل البيت وحصرتها في زاوية معتمة وهي الرحبة الآفاق.بعد إطلاعي على ما اُستفتي به عدد من علماء المذهب ضد آراء المجتهد اللبناني السيَّد على الأمين، وكأنه غاليلو ( ت 1642) عصره، دفعني إلى زيارته ببيروت، في الشهر الماضي، وكنت على معرفة مسبقة به. فقد أفتى المرجع الباكستاني الشيخ بشير النَّجفي مِن دون مناظرته قائلاً: "اجتنبوا هذا الرَّجل ما دام ماشياً على الطَّريق الذي عُرف به من مساندة أعداء أهل البيت"! وأفتى المرجع الإيراني الشيخ محمد الشَّاهرودي قائلاً: "الشخص الذي يحمل هذه الاعتقادات لا يُحسب مِن الطائفة الشيعية…"! وغيرها العديد من الفتاوى التي أُطلقت ضد الأمين مِن دون مفاتشته.

طال اللقاء لساعات مع الأمين وسمعت منه الكثير، أفضى بألمه من محاولات عزل الفكر الشِّيعي وحصره بالماضي وبالمظلمومية، وتحجيمه بالحزن والانكسار، حتى صرح الكثيرون بأن الوجود الشيعي بات مرتبطاً بصدى الماضي، وكأن التَّمادي بإيذاء الذَّات هو الهوية الفارقة للشِّيعي!

بالفعل هناك سعي دؤوب لعزل الشِّيعي عن محيطه الوطني، وحجره بروابط خارج الأوطان، تلك التي حذّر منها الشَّيخ شمس الدِّين (ت 2001) في "الوصايا". وما نافح به قبله الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (ت 1954) حتى قال خشيةً: "إن في صدري لعلماً جماً أخشى أن أبوح به من الشَّياطين الذين يوجهون العوام وفق مقاصدهم" (الخاقاني، شعراء الغري). وما في ذلك الصدر كشف عنه السيد الأمين بفكر وحجة، وبما تفرد به من اجتهاد وجرأة وهو المحفوف بالمخاطر. أو قول كاشف الغطاء الذروة في إنسانيته: "بنـو آدم إنا جميـعاً بنـو أب.. لحفـظ التآخي بيننـا وبنـو أم.. عهدتكم شـتى الحزازات بينكم.. وما بينكم غير التضارب بالوهم" (نفسه).

يُذكر أن باع شيخ الطَّائفة الطُّوسي (ت 460 هـ) في العلم جعل خلفاءه لا يقوون على الاجتهاد بعده، حتى جاءت حوزة الحلة، وسط العِراق، وما حل فيها مِن العلماء، وكان أبرزهم سبطه بن إدريس (ت 598 هـ) فكسر الحاجز، وتيسر الاجتهاد مِن جديد (النجفي، ثورة التَّنزيه). وحينها ثار كارهو الاجتهاد ضده، حتى نعت بالمخلط (نفسه).

مثله ابتلي السيد محسن الأمين (ت 1952) فطُعن بأعلميته عندما اجتهد بما يُخالف الذين أرادوا أَسر الأتباع بالحزن والانكسار المزمنين، وممارسة ما لا يتفق مع العصر، وكان ذلك مستهل القرن الماضي، فكيف الحال والزَّمن قد تعدى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين! كنا قد تبسطنا في موقف السَّيد محسن وهبة الدين الشهرستاني (1967) ومطهري (اغتيل 1979) في أربع مقالات نشرت تباعاً على صفحات "الاتحاد".

جدد آل الأمين بشخص محسن الأمين بدمشق وجبل عامل، ولعل كتاب "حركة الإصلاح الشِّيعي" للباحثة الفرنسية صابرينا ميرفان يغني عن المقال، فقد سلطت الضوء بأكاديمية صارمة على دور علماء جبل عامل وآل الأمين في الطليعة، وما واجهوه مِن تعنت المعارضين. لا أحصر اجتهاد وتجديد آل الأمين الآني بالسيَّد علي الأمين، فللآخرين أدوارهم أيضاً، لكني صببت إطلاعي على ما كتبه السيَّد علي في "ولاية الدَّولة وولاية الفقيه"، و"الأحزاب الدِّينية"، و"رسالة في تخطئة المجتهد وتصويبه"، وسواها مِن الكتيبات التنويرية الصادرة عن دار "مدارك". لكن للسِّماع منه، وبطلاقة لسانه، تأثيراً آخر.

ما شعرته في جهد السيد علي أنه مشغول بأمر طائفته ووطنه في الوقت نفسه، وقد عُزل عن قضاء الفقه الشيعي بصور، وتحول إلى سجين محاصر ببلده بسبب ما عبر عنه من رأي، في شتاء العام 2008، وكنت آنذاك ببيروت أيضاً وسمعت المقابلة أو التَّصريح الذي عُزل بموجبه من القضاء، وهو أن الطائفة الشِّيعية بلبنان لا تُحصر بحزب أو قائد، وعلى الخصوص في الشأن السياسي، إنما لها اختلافاتها، فعلى حد فهمي للتصريح أن الشيعة إزاء وطن وسياسة ومصالحة، وهم طائفة في وطن لا وطن في طائفة.

لسيد الأمين لا يرى في الإمامة أصلاً يُخرج مَن لا يؤمن بها مِن الإسلام، وأن ولاية الفقيه مِن علم السِّياسة لا علم الدِّين، وليس لأحد كائن مَن كان الحق بنيابة الإمام الثاني عشر المعصوم، على اعتقاد أنه (غاب 260 هـ). وتجده يركز على محاولة إزالة مخاوف الشيعة من الذوبان في حالة التقريب بين المذاهب، التي سعى إليها مِن قبل بقوة المرجع الإيراني السَّيد البروجردي (ت 1961)، والمرجع العِراقي كاشف الغطاء.

من باب آخر، وعلى ما يبدو كان وقعه خطيراً على خصومه، هو ذهابه إلى تخطئة المجتهد، والرجل لا يعترض على العصمة كعقيدة، لكنه يراها مشكلة إذا تعدت إلى الفقهاء في نيابة الإمام، وهذا هو المفهوم عند العامة أو المُقلِدين، وهي محنة عقلية إذا قُلد المجتهد في الصغيرة والكبيرة، مثلما حصل في الانتخابات العِراقية (2004 و2005)، أو الرجوع إلى المجتهد بقضايا خارج العبادة أو الشأن الديني، فهذا يكون خارج قدرة المرجع الإنسان.

كذلك يعتقد السيد الأمين أن المشروع السياسي لدى الأئمة ثانوي لا رئيسي، وانتهى بالحسين بن علي (قُتل 61 هـ)، بل مشروعهم هو "مشروع هداية الخلق، ولم يكن مشروع السلطة السياسية أساسياً في دعوة الهداية والإرشاد" (الأحزاب الدِينية). وتراه يستند إلى تراث الأئمة، وله في كلمة أبيهم علي بن أبي طالب (اغتيل 40 هـ): "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين، وإن لم يكن فيها جور إلا عليَّ خاصة" (نهج البلاغة) دليل ساطع.

تلك قطرات من بحر أسندها صاحبها إلى أُصول المذهب وأساسيات الدين ومصالح الناس، وها هي عجلة التطور متسارعة، فوجب على الأمين توضيح الطريق لأبناء مذهبه، وهو واجبه الشرعي، كونه عالم دين قبل كل شيء.

السابق
عن هموم حاصبيا ومرجعيون
التالي
رابطة آل دياب تكرم مارون دياب