باريس – بيروت بين السترات والقمصان… ولندن إلى الصحوة!

في باريس ثبات أكثر من خمسة عشر ألف متظاهر من لابسي السترات الصفر في مواقعهم الاعتراضية. لم ينفع القول فيهم أنهم من الضواحي أو من الوافدين المهاجرين. تأكد لي في حوارٍ ميداني مع مراقب لحركة هؤلاء – وهو مستاءٌ من الفوضى التي يحدثونها خصوصاً قرب قوس النصر وجادة الشانزيليزيه – تأكّد لي أنهم فرنسيّون عميقون، ولا يفيد الاسترسال في وسمِهم بالعبثيين. شعاراتهم اقتصادية – اجتماعية بامتياز. جُرأتهم في مخاطبة فِرق مكافحة الشغب تستحق تحليلاً دقيقاً. ليس لجهة الحركية الشارعيّة، بل لناحية نوعيّة الشعارات التي يرفعون. من هنا كانت اندفاعة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في إطلاق حوارٍ وطني حول منظومة الحماية المجتمعية. النقابات هناك تترقّب. الكتلة الفاعلة في البورجوازية الاقتصادية صامتة. المثقفون يعاينون بهدوء. الإعلام انخرط في مساندة مبادرة إبقاء قنوات التواصل البنّاء مفتوحة بين كافة شركاء العقد الاجتماعي.

لم يستسهِل الرئيس ماكرون، على محدودية أعداد المتظاهرين، دِقة ما تحرّكوا من أجله. بادر وصوّب على مكامن الخلل في ما يعانونه. صوت الناس في فرنسا العريقة صوت ضمير. لا مكان هناك للتهميش. كرامة الناس فوق كل اعتبار. الدستور القائم على شراكةٍ في مسؤولية حماية الشعب ومكتسباته من دولة المؤسسات يعلو ولا يُعلى عليه. السترات الصفر يعرفون حدودهم. ولو شاغبوا في بعضِ المفاصل. يدركون أن حقوقهم في البُنية المؤسِّسة لاهتمامات أصحاب القرار. هذه الظاهرة في ثباتها على المجاهرة بأجندةٍ واضحة المعالم منحت الرئيس ماكرون وحكومته فرصة إثبات أن الحريّات العامة مُصانة، وأنساق الإصلاح الاقتصادي – الاجتماعي تستأهل البحث. هكذا هي الديموقراطيات الحقيقية من أعلى الهرم الى أدناه مسؤولة ورصينة.

اقرأ أيضاً: أبعد من الحكومة بكثير.. هذا ما يريده «حزب الله»!

***

الإمام المغيّب موسى الصدر ورفيقاه كرامة لبنان وعزّته. غُيّب الإمام ليُضرب نهجه وفلسفته في لبننة كل الخيارات. من رَحِم الهَمّ الاجتماعي أتى. ابتعد عن دوغماتيّات مستوردة. بقِيَ الى الفقراء قريباً. لم تُسَوَّر له مطارح ومربّعات. في ضمير كل لبنانيّ يعيش الإمام موسى الصدر. ثبات النضال لعودته والكشف عن مصيره يقوم على تفعيل مسارات التحقيق حيث غُيّب. كثيرون أرادوا غيابه. كثيرون استفادوا من تغييبه. حمل الإمام المُغيّب همَّ قيام الدولة. من يراجع أدبيّاته يفهم يقيناً أنه كان مستاء وهو اليوم مستاء من استباحة الدولة. في بيروت هذا الأسبوع والقَبلهُ اغتيلت الدولة. ليس جديداً ما شهدناه وقد نشهده. مساحات الفضاء العام العادل والمدني والمستدام مؤسساتيّاً، والتي لم يكِلّ الإمام المُغيّب عن المجاهرة بوجوب توسيعها وتحصينها، باتت في خبر كان. قمصانٌ منذ أعوام هدّدت وأسقطت الدستور. وقُمصانٌ مُستجدّة، ومنذ أيام، تُجهِض خيار التلاقي على قضية وطنية بفِعل إصرارها على أنها قضيّتها حصراً. عذراً أيها السادة وصُدقاً، لو كان الإمام المُغيّب بيننا لكنّا أصغينا منه الى حكمةٍ أكثر منه الى أمثالٍ تندّريّة أو تهويلٍ بالقبضات المرفوعة والحناجر المدوّية. هل نستعيد الدولة رأفة بقِيَم الإمام ووفاءً لرسالته؟

***

في لندن يُسقط مجلس العموم الاتفاق على البريكسيت. تيريزا ماي تُسقط محاولة حجب الثقة. الريفيرندوم الذي بدا شعبوياً بدليل استمرار السجال الأكاديمي والاقتصادي والإعلامي حوله، قبل خطوة مجلس العموم، يفتح أفق إعادة بناءٍ إيجابية لتوجّهات الإنكليز.

ما جرى خلال أقل من ساعتين حول قضيّة مصيريّة، وبقدر ما يؤشّر الى مأزق إنكليزي – إنكليزي، وإنكليزي – أوروبي، بالقدر عينه يحمِل مساراً جديداً قد يسمح ببدءِ فرملة الموجة الشعبوية القومجية المتصاعدة عالمياً.

إنكلترا لم تنجرّ الى ستراتٍ وقمصان. أبقت التشنُّج في حيّز المؤسسات. سيتحتّم في هذه المرحلة أن ينكِبَّ الاستبلشمنت هناك على الموازنة بين خيارات الناس ومقتضيات الحوكمة الفاعلة والضابطة لأيّ انهياراتٍ محتملة. إنها صحوة مباركة من عاصمة الضباب.

***

الصحوة في إنكلترا والحوار في فرنسا، تقابلهما في لبناننا ارتجالات مهينة من أصحاب القرار، وشبه تسليم بأن لا حول ولا قوة في معسكر الناس.

دولة فاشلة نحن. جامعاتنا مسؤولة عن عدمِ إطلاق مبادرة إنقاذية والانكفاء الى الحرم الجامعيّ. السياسات العامة ليست أبحاثاً ودراسات بل دينامية تغيير بالاستناد الى هذه الأبحاث والدراسات.

السابق
المجلس الدرزي يَرصّ صفوفه.. ويبايع سياسة جنبلاط
التالي
باسيل لأبو الغيط: أعيدوا سوريا فوراً!