«معارك على فتات»

ليست المشكلة في تظاهرات الجمعة التي جرت في إدلب وحماة وحلب، فهذه التظاهرات بلا شك نافعة ومفيدة، ولها وظيفة حيوية في تدعيم موقف قوات الثورة.

لكن المشكلة تكمن في جوانب عدة، أبرزها جانبان محددان: الأول هو حالة الفصام النكد بين الأداء المدني والأداء المسلح، فبالرغم من التلاحم بين المدنيين والعسكريين في المناطق المحررة المتبقية، فإن الخلاف سرعان ما يدب بينهما عندما يقوم المدنيون بأي نشاط أو حراك ثوري، وهذا مرده إلى عدم قدرة الثوار على توظيف التظاهرات لصالح أهداف الثورة العامة، وذلك بسبب افتقاد الثورة إلى التنظيم، وبسبب غياب الأجسام أو الهيئات التي يمكن أن تكون حلقة وصل بين الثوار العسكريين من جهة، وبين الحراك المدني من جهة أخرى.
والجانب الثاني، يعكس إشكالية مفهومية لدى كثير من جمهور الثورة، بمن فيهم النخب المدنية: إسلامية وعلمانية، وهو غلبة ظنهم على أن التظاهرات ستحرج النظام والروس، وأن تغليب اللون المدني المعتدل على اللون الإسلامي الأصولي، إن صح التعبير، عن الثورة من شأنه أن يوفر غطاء دوليا لها، وأن يسقط حجة الروس والنظام بحتمية الهجوم على إدلب بسبب وجود الإرهابيين.
الفريق الذي يؤمن بهذه الفرضية يمتلك فهما مبسطا جدا لطبيعة ما يجري في العالم، وهو الفهم المبسط مرتبط بأزمة وعي عام نعيشه،، لأن المشكلة في سورية، في المنظور الغربي، ليست في النظام، ولا في استبداده وقهره للشعب، وإنما المشكلة تكمن في الثورة ذاتها، وفي الخطاب التغييري الذي تحمله، بما يعنيه من تمرد على ميراث سياسي في المنطقة، تواطأت عليه القوى الكبرى، وتقاسمت بموجبه حصصها من الثروات والنفوذ السياسي والاقتصادي.
والنظام السوري في هذا السياق، شأنه كشأن جل أنظمة المنطقة، أدى دورا وظيفيا، من ذلك الإبقاء على حالة التخلف المجتمعي، وضعف بنى الدولة، مقابل بقائه في السلطة.

إقرأ أيضاً: إدلب في انتظار المجزرة الكبرى

لذلك، فإن التظاهرات في ذاتها، حتى لو خلعت النساء فيها ثيابهن، وحلق فيها الرجال لحاهم، ولبسوا سراويل فوق الركبة، وتزينوا بسلاسل ذهبية حول أعناقهم، لن تنتزع ابتسامة رضا في عواصم القرار الدولي، ولن تجرَّ دعما ذا جدوى، ولن تمسَّ طرفا من أهدافها، إلا إذا رضخ المتظاهرون إلى المصالح الدولية في سورية، وبالطريقة التي يراها أصحاب المصالح لا السوريون أنفسهم، وهي مصالح ليست منفصلة عن سلسلة طويلة ممتدة على كامل تراب المنطقة العربية وتركيا، وعنوان هذه المصالح هو تأكيد التبعية السياسية والاقتصادية والاستراتيجية للدول الكبرى الفاعلة.
إحدى مشكلاتنا في الثورة، أننا نحاكم العالم الخارجي بمنطق أخلاقي، بينما الأخلاق، التي لا يوجد لها تعريف فلسفي في الغرب حتى اليوم، لا وجود لها في قواعد التعامل السياسي بين الدول، لأنه يستحيل جمع المصالح والأخلاق في منظومة العمل السياسي الدولي اليوم، ولأن منطق التنافس بين الدول يقوم على القوة المادية والحضارية، لا على المنظومة القيمية.
في إطار هذه الجدلية في العلاقات الدولية، ومصالح الدول الكبرى الاستراتيجية، تبدو صراعاتنا البينية، على العلَم والسلمية والتطرف والاعتدال،، في المجتمع الثوري، أشبه بمعارك هامشية على فتات الكعكة الذي يتساقط من أفواه الكبار بعد أن التهموها ولم يبقوا منها شيئا تقريبا، وهي معارك بينية مخجلة في الواقع، وتثير قدرا كبير من الضحك والتسلية للمراقبين من خارج المنطقة.

إقرأ أيضاً: لماذا تظاهرات إدلب اليوم؟

منذ نحو سبع سنين ونحن نستنزف قدرا كبيرا من لياقتنا النفسية والأخلاقية، ومن المساحات المشتركة في ما بيننا، وهي مساحات تتآكل يوما بعد آخر، لتحل محلها حدود سميكة من الخلافات التي تتحول مع الوقت، بانتباهة منا أو بغير انتباهة، إلى أحقاد.

السابق
اغتيال هيثم السعدي في مخيم عين الحلوة وتوتر أمني
التالي
بالفيديو: بائع الكعك في بيروت يحرق العربة احتجاجاً على مصادرتها