الانقلاب اللبناني الزاحف

ليست فضيحة أدوية السرطان التي انفجرت الآن في وجوهنا، رغم أنها حدثت عام 2009، سوى القشة التي قصمت ظهر بعير النظام اللبناني، فالصيدلانية منى البعلبكي ومشغلها الطبيب رهيف جلول ومن غطاهما سياسيا، ليسوا سوى تفصيل صغير في مسلسل انهيار الطبقة الحاكمة اللبنانية وإفلاسها الأخلاقي النهائي.

طبقة اتفاق الطائف، مع التعديلات التي طرأت عليها بعد 2005، لم تعد قادرة على الحكم. السلطة سقطت، وما مسلسل الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية التي لا حل لها، سوى الإعلان النهائي عن سقوطها. لم يعد هناك أي مجال لترميم هذه البنية الخربة والمفلسة والفاقدة لأي مرجع أخلاقي.
عندما تعجز الطبقة الحاكمة عن الاستمرار في الحكم، يتعرض المجتمع إلى أحد ثلاثة احتمالات، الثورة أو الحرب الأهلية او الانقلاب العسكري. الثورة مستحيلة في لبنان، ليس بسبب غياب قوى ثورية متماسكة فقط، بل أيضا لأن النظام الطائفي قادر على ابتلاع الثورة وتحويلها إلى حرب أهلية.

اقرأ أيضاً : لبنان لحزب الله مقابل أمن اسرائيل! 

والحرب الأهلية مستحيلة ليس بسبب عفة مفاجئة طرأت على المجتمع اللبناني، بل لأن هناك ميزان قوى على المستوى العسكري يجعل من حزب الله القوة العسكرية الوحيدة الجدية. مقارعة حزب الله الذي تحول إلى جيش كامل، مسألة تفوق قدرة أي طائفة لبنانية بل تفوق قدرة جميع الطوائف مجتمعة. أما الانقلاب العسكري فهو مسألة معقدة نتيجة وجود جيشين في لبنان، الجيش النظامي وحزب الله الذي بدأ يلعب اليوم دورا شبيها بدور الحرس الثوري الإيراني. الحرس الثوري هو الجناح العسكري المقاتل للجيش الإيراني، وهذا ما يسعى حزب الله إلى الوصول إليه.
الاحتمالان الأولان، أي الثورة والحرب الأهلية مستحيلان، وهذه مسألة صارت من البديهيات التي من السهل البرهنة عليها، أما الاحتمال الثالث فمسألة فيها نظر رغم تعقيداتها الكثيرة.

قبل تحليل هذا الاحتمال، يجب الإشارة إلى أن هناك محورا مركزيا بدأ يتشكل للسلطة منذ انتخاب الجنرال عون رئيسا للجمهورية، هو محور التيار الوطني الحر – حزب الله. وهو محور بالغ التعقيد، لكنه يثبت تماسكه في المنعطفات الكبرى، كما حصل في معركة جرود عرسال. وغني عن القول أنه محور عسكري أساسا، فعون في مرحلة قيادته للجيش كان لا يخفي ميوله الانقلابية، كما أن حزب الله هو آلة عسكرية تمتلك وعاء سياسيا وخدماتيا، وهي آلة أثبتت فاعليتها وقدراتها واستعدادها للمقامرة المحسوبة.

غير أن هذا التلاقي في الميول العسكرية عند الطرفين لا يصنع انقلابا عسكريا كلاسيكيا، فالطرفان مكبلان بتحالفات معقدة، حزب الله مع حركة أمل وحركة أمل مع وليد جنبلاط وسليمان فرنجية… والتيار العوني مع القوات من جهة ومع تيار المستقبل من جهة ثانية. عدا تعقيدات الوضعين الإقليمي والدولي.

هذه الخريطة المعقدة تستبدل الانقلاب السريع بما يمكن تسميته بالانقلاب الزاحف. وهذا ما يجري عمليا وسط احتفالات شعبية ووطنية حولت مقولة الجيش والشعب والمقاومة إلى أيقونة سياسية لم يعد مسها سهلا.
في لعبة الانقلاب الزاحف هناك محطة انقلابية كبرى تمت، وهي تهميش السنية السياسية وانهاكها، وتركيب السلطة المؤقتة على محور التحالف الشيعي الماروني.

في التوازن بين عنصري المعادلة الشيعية- المارونية، يميل الميزان بشكل واضح لمصلحة الشيعية السياسية على حساب المارونية السياسية. والسؤال هو عن المصلحة المارونية التي جمعت العدوين السابقين: القوات والتيار العوني في تحالف مع حزب الله؟
لا أميل إلى الموافقة على فرضية الاستسلام، فكل الضجيج الصاخب الذي أشعله العونيون دفاعا عن الحصة المسيحية في السلطة، ليس مقدمة استسلام، بل مقدمة بحث عن شراكة مع الحزب الإلهيّ، لكن عنصر التكافؤ مفقود. كما أن ما يسمى «بالمجتمع المسيحي» مصاب بفقدان التوازن الداخلي وبالهشاشة نتيجة ضعفه من جهة، وفقدان قياداته للصدقية من جهة ثانية، فكيف ستتم هذه الشراكة؟
هناك احتمالان، الأول هو بناء السلطة الجديدة على محور التحالف بين الجيشين، فيكون العسكر هو عماد السلطة التي ترى مستقبلها الاقتصادي والريعي في الثروة الغازية والنفطية، بعدما استكملت حلب البقرة اللبنانية حتى آخر قطرة، وبعد الانهيار المخيف للطابع الخدماتي للنظام الاقتصادي بسبب حروب المنطقة والعقوبات الأمريكية.

الاحتمال الثاني هو الرهان على الفدرالية، فكل مؤشرات «الحل» في سوريا على الطريقة الروسية، تشير إلى ما يشبه الحل الفيدرالي، فلماذا لا تستعيد المارونية السياسية خطابها الفيدرالي، علما أنها كانت السباقة إلى هذا الطرح.
الاحتمالان متكاملان، فحزب الله وإيران يعلمان أنهما ليسا قادرين على مواجهة المشاريع الروسية في سوريا، وهذا يسمح للمارونية السياسية بهامش للمناورة تعتقد أنه يحميها من الاندثار.
الانقلاب حصل، وهو لم يحصل فجأة بل كان نتيجة تراكم القوة، في ظل انهيار الطرف النقيض، أي ما كان يعرف بمجموعة 14 آذار، وتلاشي قوة حماتها الإقليميين والدوليين، خصوصا انهيار القوة السعودية- الخليجية، التي كان دورها المدمر في الثورة السورية هو المسمار الأخير في نعش جبروتها الوهمي.
نحن في زمن الانقلاب، آلة السلطة اللبنانية تتلاشى وتندثر، ولم يبق منها سوى العسكر، والبلد في فراغ النهب والسطو والفساد. هذا بالطبع لا يعفي القوى الانقلابية من مسؤوليتها عن الفساد، التي هي شريكة أساسية في بنيته.

اقرأ أيضاً: منى بعلبكي: الحلقة الأضعف في حلقات مشبوهة في «مستشفى الحريري»

والانقلاب يتم وسط طبول الحرب ضد إرهابيي النصرة وداعش، ومايسترو الحرب هو الأمين العام لحزب الله الذي يتصرف بصفته مرشدا للجمهورية.
لا مفرّ من تجرّع لبنان كأس الانقلاب، وهذه مسألة وقت وظروف ليس أكثر، ولا مفرّ من تحول حزب الله إلى الحزب القائد للسلطة الجديدة، التي تولد من تعفن الطبقة الحاكمة اللبنانية. فأية تسوية لن تستطيع تجاوز هذا السقف، تماما مثلما لم تستطع تسوية الطائف تجاوز سقف الهيمنة السورية.
غير أن وصول الانقلاب إلى اكتماله مرهون بعوامل متعددة، أهمها مصير سوريا ومبلغ النفوذ الإيراني فيها من جهة، وتفاصيل تعقيدات الطوائف اللبنانية، وهي تعقيدات غير مضمونة المآلات، من جهة أخرى.

ما العمل أمام مسار انقلابي بات حتميا؟
هذا السؤال موجه إلى الجميع، لكن لا أمل في الحصول على إجابات من أشلاء طبقة الفساد المنهارة، الاحتمال الوحيد هو في ملعب القوى الديمقراطية اللبنانية، التي ينهشها الضياع الآن، وهو سؤال عن بناء مطارح لمقاومة الانقلاب يصنعها المجتمع في سبيل حماية نفسه من أشباح الاستبداد، وإعادة تأسيس قيمه الديموقراطية.

السابق
نجل فضل شاكر: والدي عائد بإذن الله
التالي
بالفيديو: حسناء الموصل في حالة يرثى لها بين «قهقهات» الجنود!