رسالة إلى الحزب الشيوعي اللبناني

خرجتُ منك، سنة 1990، في عمر ينتسب فيه المرءُ، في ظروف طبيعيّة، إلى حزب. وقد اعتبرت، آنذاك، أن توجيه رسالة استقالة مكتوبة إليك هو ترجمة حقيقية لاحترامي لك ولقناعتي بأنك مؤسسة آمل أن تستمر وتتطوّر.

وكان مبررُ خروجي، وفق الرسالة تلك، إضافة إلى أنني لم أعد ماركسيّاً لينينيّاً، هو أنَّ الأفقَ البديهيَّ الذي يجب أن تفتحه لنفسك هو الديمقراطية المدنية، انطلاقاً من أنك تحمل في طيّاتك بذور ذلك، بل هو المسار الطبيعي، خصوصاً بعد الحرب ومآل التجربة الاشتراكية السوفياتية إلى الفشل. ففي اعتقادي، آنذاك، أنك جمعت بين الريفية والمدنية، بين الأيديولوجيا والسياسة، بين الشمولية والديمقراطية، بين العنف الثوري والسلميّة، بين التبعية والاستقلالية، بين الأممي والقومي- الوطني، بين التاريخي والمرحلي… إلخ. وقد استطعت ما بين مؤتمرك الثاني (1967) والحرب (1975) تحويل هذه التناقضات إلى تنوّعات، فاتسع خطابُك وكذلك أطرُك، فإنك بعد الحرب وانهيار الاتحاد السوفياتي، كان عليك حفظ نفسك من خلال تطويرها. وذلك بالمراجعة والإنتاج.

لكن، من خلال تجربتي المحدودة في العمل الحزبي، لمست أنك عاجزٌ عن التقدم خطوة إلى الأمام. فالعسكرة والمركزية الديمقراطية الداخلية حوّلتاك إلى بيئة انطفأت فيها التنوّعات، وحوّلت التناقضات إلى خلافات، وأبعدت الطاقات.

ففيما كان عليك أن تواجه مصيرك وتطرح أسئلة الاستمرار والتجدّد، اختُزلت بالتهافت على مقعد نيابي أو وزاري. وإذ لم تنله ازداد إحباطك.

وابتعدتُ عنك، بلا أيديولوجيا منفتحاً على ما يجري في العالم وما تُطرح فيه من أفكار، ومصنّفاً نفسي مواطناً ديمقراطياً ذا أفكار إنسانيّة على رأسها الحريّة والمساواة والعدالة الاجتماعيّة. وإذ التزمت الاستقلاليّة، عنك وعن كل القوى السياسية والمذهبيّة والزعماء وأشباههم وما إلى ذلك، بقي بيني وبينك خيط يشدّني إليك طوعاً، تارة في لحظة عاطفيّة، وطوراً من باب صحافي. فقسوت عليك حيناً ونجحت في أن أكون موضوعيّاً تجاهك أحياناً.

لكن، وللصراحة، لم أجد منذ استقالتي ما يقرّبني منك أو ما يجعلني مخطِئاً في قراري وتشخيصي أحوالك. لا فكريّاً وأنت جافٌّ وقديمٌ تكرر بعضَ الماضي. ولا سياسيّاً وأنت ضيّقٌ محدودٌ متهافتٌ ضائعٌ غير واضح. ولا تنظيميّاً وأنت واهنٌ منحسرٌ مستسلمٌ لتآكلٍ شلليٍّ وأساليب ستالينيّة. ولا قيميّاً وأنت منغلقٌ متحسّرٌ تنطقُ بالغربة عن الواقع والمتغيرات والأفكار. وإذ لا تحاورُ من غادروك ومن يجاورونك، تكتفي بدعوتهم الموسميّة إلى العودة- الانضمام إليك كأن شيئاً لم يحصل، وكأن لا رأيَ لهم ولا سببَ، أو أسبابَ، لخروجهم وبقائهم بعيداً منك. وإذ تمتزج الدعوة تلك إلى العودة إليك باعتراف بتدهور أوضاعك وحاجتك إلى التطوير فكريّاً وسياسيّاً وتنظيميّاً، لا تُعطى أيّ إشاراة وضمانة لخوض غمار التطوير. بل يشعر المدعو إليك بأنه مدعو إلى جسمٍ معقّدٍ مكبّلٍ بالأفكارِ القديمةِ وبالخلافات ومراكز القوى والقوانين- الألاعيب التنظيميّة صعبة الإختراقِ.

صدقاً، الأمر بحاجة إلى مقاربة مختلفة وربّما عكسيّة. فأنا ممّن تعلّموا فيك ومنك قاعدة ديمقراطية تقوم على الذهاب إلى الآخر، أمختلفاً كان أم قريباً أم معتكفاً. بينما أراك اليوم تنتظر في صدفتك أن يأتي من يأتيك. ولن يأتيك وأنت بهذا الجمود أحدٌ إلا لسبب عاطفي. وهذا مع تقديري له ليس كافياً. عليك أن تتحرّك، أن تنفض الغبارَ عن نفسك وفكرك ولغتك وأدائك وتحاور وتجدد، وتراجِعَ نقديّاً أيديولوجيتك وخطابك اللذين تجاوزهما الزمنُ، في الفكر والسياسة والتنظيم، وتقوّم تجربتك من اليوم رجوعاً إلى انخراطك في الحرب… وغيرها كثير من أقوالك وأفعالك.

ولا ضير من فحص ضميرك تجاه الماركسيّة التي تتبنّاها و”تلتزمها”. فأنت، على الأقل منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، جامدٌ تجاهها تستهلك اسمَها ولا تلامِسَ روحَها ولا تستخدم طاقاتِها ولا تُعيد النظرَ في النسخ التي وصلت إليك عنها وفي ما يجب أن تُعيد النظر فيه منها. وتستبعِدُ النقدَ الذي وجِّه ويوجه إليها، فكراً وممارسة. لقد حوّلتَها ديناً، مثلما تحوّلت أنت مذهباً تتشبّث أجيالُه بالماضي، فتتغنى تارة وتبكي على الأطلال تارة.

وليس غريباً مع الافتقاد إلى مقوّمات المبادرة الفكرية وحسّها، ومع الهامشية السياسيّة وعدم الإقدام على المراجعة والنقد وإنتاج خطاب متجدد، ومع الانحسار الحزبي والغرق التنظيمي، أن يحضر في تمجيد صورتك تجربة السلاح والعسكر، بل اختزال المقاومة الوطنية إلى ملكيّة أدبيّة للانطلاقة وذكرى وشهداء ومظاهر عسكريّة. فهذا، إلى مضارّه السياسيّة والأخلاقيّة، دليلٌ على اختلال بنيتك وغلبة العقائديين الذين ينهلون من الماضي، وفق مزاجهم، ما يتغنّون به وينفي الهامشية وينتقم منها. فأين النقابيون والروح النقابيّة وثقافتها فيك؟ فقد اقتُصر العمل النقابي على مجموعة ضئيلة من المحترفين. ولا حاجة إلى السؤال عن الفئات الأخرى التي اختفت منك.

ومع احترامي لك مؤسسةً وتاريخاً، وللرفاق الذين حفظوك وهم في داخلك، وللرفاق الذين حفظوك وهم في الخارج ومنهم من لم يعد شيوعيّاً أيديولوجيّاً وتقليديّاً ولديه انتقادات على فكرك وسياستك وتنظيمك وأحوالك، لا بد من القول إن الحزب وسيلة وليس غاية.

يفتح هذا القول، إذا ما تجاوزناه بالرضا، باب مناقشة ما يجب مناقشته. ومما يجب مناقشته هو أنك في أزمة طويلة عريضة، تاريخية وراهنة. وفي المقابل، إذا ما نظرنا خارجك، نجد بلا عناء أن البلد في أزمة وبلا قوى تغيير. بل إن قوى التغيير مشتتة وبلا مشروع ديمقراطي موحّد بقدر ما يتّسع للتنوع. ويستدعي ذلك منك تجاوزَ نفسك. ولأن المسألة، في نظري، ليست توحيدك وإعادة المنزوفين منك إلى التنظيم، وهم غالبيّة وباتوا متنوّعين فكريّاً وسياسيّاً ولا يتّسع لهم حزب شيوعي تقليدي، فكيف باليساريين الآخرين والعلمانيين والديمقراطيين والمدنيين، لهذا أقترح أن تذهب إلى تسوية تاريخيّة مع هؤلاء ونحو المواطنين. وذلك يستوجب فتح ورشة يتقدّم فيها الجميع إلى نقطةٍ وسطٍ، بهدف إنتاج إطار تعاقدي حركي حر، ومشروع ديمقراطي وطني بوصلته المواطنين. فمن دون ذلك ستبقى في أزمتك وهامشيّتك وأطلاليّتك، وسيبقى اليساريّون والعلمانيّون والديمقراطيّون في التشتت وتبديد الطاقات والجهود.

إقرأ أيضاً: في يوم الشهيد الشيوعي : فلنتذكر ابطالنا فقط.. تحية الى الشهيد كمال الحجيري

ولا مفر من الاعتراف، أنَّ حالك هذه هي طاقتك، وعودة من ما زال شيوعيّاً إليك لا تنقذك ولا تجعلك قادراً على النفاذ من المخرطة السياسيّة اللبنانيّة التي تحاصرك وتشتت طاقتك. وفي المقابل، يخفق اليساريون والعلمانيون والديمقراطيون والمدنيون، منذ عقدين تقريباً، في بناء إطار أو أطر سياسيّة ذات جدوى. ولا يبدو ذلك واضحاً في المدى المنظور. وفيما لا معنى لحزب مهما كان قوياً ومنتشراً من دون مشروع، لا أتوقع منك وأنت في هذه الحال، أن تنتج مشروعاً يخاطب هؤلاء، فماذا عن المواطنين عموماً؟

ولا أقترح ها هنا تحالفاً، إلا إذا ما اتفق المتحاورون على ذلك. إنّما أقترح ورشة تجديديّة لك، أنت الرحم التي ولّدت ونزفت أكثر مما جمعت. وأقترح ورشة تجميعيّة إنتاجيّة وذات أفق وجدوى للمشتتين المبدّدين من يساريين وعلمانيين وديمقراطيين ومدنيين. ومن مقتضيات ذلك أن تستعد أنت للانتقال إلى فكر وسياسة وجسم وإسم أوسع، وأن يغادر اليساريون والعلمانيون والديمقراطيون والمدنيون عقلية تحويل قراءة الماضي والسياسات إلى محاكم لا تصدر إلا أحكام الاعدام والطلاق، وأن يفكّروا في استثمار التراكم التاريخي. وأنت، الحزب الشيوعي، من أبرز وأقوى ما لدينا من مداميك.

إقرأ أيضاً: الحزب الشيوعي بين المقابر والاحياء

التواضع والحوار لإنتاج الإطار والرؤية، أكثر ما نحتاج إليه. وأما التمترس خلف الأطر والخلافات في المقاربات السياسيّة الماضية والراهنة مهما احتدّت واتسعت، فليس إلا أقنعة لعدم الذهاب إلى الفعل والبناء.

باختصار، من مصلحتك أن تخرج من أزمتك وصدفتك. كذلك من مصلحة اليساريين والعلمانيين والديمقراطيين والمدنيين، أن يغادروا ما هم فيه. مصلحتنا معاً.

وللحديث صلة.

(المدن)

السابق
باسيل جاهر بالعنصرية والناشطون يعلقون: السوريون والفلسطينيون أشرف منك
التالي
رشا أبو زكي متضامنة مع المصروفين من جريدة الأخبار