بري يتفرج، سلام ينتفض، جعجع سعيد، جنبلاط يندفع.. و«حزب الله» مُحرج

كتبت صحيفة “السفير” تقول : لبنان بلا رئيس للجمهورية، لليوم الثاني عشر بعد الأربعمئة على التوالي.
انتفت الفواصل والجدران والسواتر والأسلاك الشائكة بين وسط بيروت وبين مقر مجلس الوزراء في السرايا الكبيرة. ما قيل في الشوارع قيل مثله لا بل أكثر وأخطر على طاولة آخر المؤسسات التي لا تزال على قيد الحياة، في ظل رئاسة الجمهورية المفقودة والسلطة التشريعية الميتة سريريا.
ربما كان المتظاهرون في الشوارع أكثر رقيا من الوزراء أنفسهم. استخدم البرتقاليون تعبيرات معظمها يأتي من زمن عمره ربع قرن، ولو أنه كان موجها هذه المرة ضد مؤسسة لطالما شكلت البيئة الحاضنة لا بل المؤسِّسة للحالة العونية.
لم يعد يحتاج أحد إلى شواهد للتدليل على أن لبنان يمر بأزمة وطنية كبيرة اسمها أزمة حكم أو صيغة أو مشاركة. ما جرى، أمس، كان شاهدا إضافيا على سقوط الدولة هيبة واسما وشكلا ومضمونا ورموزا.. وسلوكا وخطابا. أما من يتحمل المسؤولية، فان الكل شريك، ولو أن نسب الشراكة تتفاوت بين مكون وآخر.
ما جرى بالأمس دليل إضافي على سقوط الدستور. صارت مجموعة القوانين العليا التي أشبه ما تكون بعقد بين الدّولة والشعب، رزمة أوراق مجموعة ضمن كتاب اسمه “الدستور اللبناني” مدموغا بالأرزة. هذا هو الدستور. مجرد عدة للاستهلاك والتسويق وكل فريق يقاربه من الزاوية التي تخدم لحظته وحرتقاته وليس ثوابته أو المصلحة العليا للدولة.
خير دليل على ذلك، تحول 23 وزيرا في الحكومة، بين ليلة وضحاها، إلى رؤساء للجمهورية. “أنا أتحدث من موقع رئيس الجمهورية” قالها جبران باسيل أكثر من مائتي مرة والياس بو صعب مائة مرة ورددها عدد كبير من الوزراء، بمن فيهم وزراء ينتمون إلى “14 آذار”.
صار الوزير الوحيد في الحكومة هو رئيس الحكومة تمام سلام الذي وجد نفسه محاطا برؤساء يخلطون ترؤس جلسة بالصلاحيات وإدارة الجلسة بجدول الأعمال. رؤساء بدا بعضهم مهووسا بالإعلام، فأراد أن يهزم رئيسه أمام الكاميرات، ولولا العيب والحياء، لما تردد في كيل لكمة التزاما منه بأمر رئيسه، ما دام أن لكل وزير رئيسا وزعيما يعلو اسمه فوق الدولة والدستور وكل المؤسسات.
معيب ما جرى، أمس، بكل معنى الكلمة. المنتصرون من السياسيين كثر، أما الخاسرون، فهم الناس الذين لم ولن يغادروا تلك المستنقعات التي وضعهم فيها قادة الطوائف.
لن يجد اللبنانيون اليوم من يقدم لهم قراءة موحدة موضوعية. كل قراءة ستتناسب مع مصلحة هذا أو ذاك. لا أحد يسأل عن تقنين الكهرباء والمياه المهددين بالانقطاع التام، ولا عن الرواتب والأجور المهددة، ولا عن سلسلة الرتب والرواتب التي تآمر عليها الإصلاحي والمحافظ، ولا عن المواسم الزراعية التالفة، والصيف الاغترابي المهدد والمؤسسات المهددة بالإقفال؟
الكل مأزوم والكل مهزوم وقد أقفل ميشال عون باب القصر الجمهوري نهائيا بانتظار انتخابات نيابية تحتاج الى قانون، والقانون يحتاج الى تفاهمات مستحيلة.
أما الحكومة، فإنها صامدة لمدة أسبوعين، فاذا تعذر التوافق على آلية جديدة لمجلس الوزراء، وهو الأمر الأكثر ترجيحا، فإنها ستكون محكومة بأحد أمرين: اما التعطيل أو الاستقالة، وفي كلتا الحالتين، سيكون القرار رهن ارادات خارجية لا تريد المس بالاستقرار اللبناني، إلا إذا حصلت مفاجآت من نوع إقدام تمام سلام على رمي استقالته بوجه الجميع بمن فيهم حلفاؤه.
أما بعد،
ماذا يمكن أن يسجل على هامش المنازلة العونية ـ “المستقبلية” التي توزعت صورها، أمس، بين شوارع وسط بيروت التجاري من جهة و “شوارع” السرايا الكبيرة وقاعاتها من جهة ثانية؟
أولا، انتهت الجولة الأولى بين ميشال عون و “المستقبل” إلى تعادل بين الاثنين، فلا هيبة تمام سلام انكسرت، بدليل إصراره على تمرير بند وحيد هو الأهم في جدول الأعمال (اعتمادات المستشفيات) ولا هيبة ممثلي “الجنرال” في مجلس الوزراء قد انكسرت بدليل نيلهم تعهدا واضحا من رئيس الحكومة، بإجراء مقاربة جديدة لآلية عمل مجلس الوزراء بعد أسبوعين، برعاية وضمانة وزير الداخلية نهاد المشنوق، وبحضور وزير الدولة محمد فنيش.
ثانيا، نجح تمام سلام في إظهار مظلوميته في شارعه وفي الوقت نفسه، قدم وجها جديدا غير مألوف عندما رفع صوته أكثر من مرة، برغم تعرضه لكم كبير من الاهانات والشتائم في جلسة مجلس الوزراء، ربما لم ينلها رئيس للحكومة من قبل منذ الاستقلال حتى الآن.
ثالثا، قالها وزير الداخلية بالفم الملآن لوزير الخارجية في الخلوة الجانبية بأنكم لن تجدوا رئيس حكومة أكثر انفتاحا واعتدالا من سلام، وأكثر سلاسة منه في إدارة جلسات مجلس الوزراء، بدليل أن الآلية التي “فبركها” جبران باسيل والياس بو صعب مع بداية الفراغ الرئاسي، قررا لاحقا تعديلها والانقلاب عليها، قبل أن يكتشفا مجددا ضرورة العودة إليها.
رابعا، بدا واضحا من خلال كل مجريات الجلسة (باستثناء الاحتجاج الموضعي على الجلسة الجانبية) أن رئيس المجلس النيابي نبيه بري قد طلب من وزيريه في الحكومة الالتزام بفضيلة الصمت طوال الجلسة، مسايرة لرئيس الحكومة من جهة وللحليف المضطر للوقوف على خاطر “الجنرال”، في كل شاردة وواردة من جهة ثانية.
خامسا، كان لافتا للانتباه أن وزيري “اللقاء الديموقراطي” وبرغم الإشارة التي كانا قد تلقياها مسبقا من وليد جنبلاط بعدم الاندفاع نحو أية مواجهة مع العونيين، قد وجدا نفسيهما، وبالتنسيق مع مرجعيتهما السياسية شريكين في الاشتباك الذي بلغ ذروته عندما خاطب الوزير وائل أبو فاعور جبران باسيل بقوله دفاعا عن سلام: “لو أنا رئيس حكومة بقوم برميك برا”، وهي العبارة التي تلقفها باسيل للقول له: “منعرف إنكم بدكم ترموا المسيحيين برا”!
سادسا، إذا كان مفهوما لماذا تحول الوزير علي حسن خليل إلى “أبو الهول”، في الجلسة، فان وزراء “المستقبل” مارسوا حيادا استثنائيا، حتى أن وزير الداخلية لعب “دور الاطفائي” في ظل صمت الوزيرين أشرف ريفي ورشيد درباس، ليتبين لاحقا أن الرئيس سعد الحريري، هو الذي طلب إليهم بالتنسيق مع سلام عدم تكبير المشكل مع عون وبالتالي التزام الهدوء لأن “الجنرال” يراهن على تجييش الشارع المسيحي باستثارته ضد “المستقبل” سياسيا ومذهبيا، وهذه النقطة سيتطرق إليها الحريري في خطابه الرمضاني المقرر الأحد المقبل.
سابعا، لم يكن سلوك “حزب الله” مفاجئا لأحد. التزم الوزيران محمد فنيش وحسين الحاج حسن، برغم اعتراضهما على بعض التعبيرات الجارحة التي طالت رئيس الحكومة، السقف السياسي الذي سيعيد التأكيد عليه، اليوم، الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله بالتضامن الكامل مع ميشال عون ومع مطالبه بالشراكة ورفض التهميش.
ثامنا، بدا واضحا منذ اللحظة الأولى لدخول مجلس الوزراء أن جبران باسيل يريد شراء الاشتباك على مرأى من وسائل الإعلام، وإذا تعذر ذلك، فان كاميرا الياس بو صعب كانت جاهزة للتصوير منذ بداية الجلسة وحتى نهايتها، لا بل إن هناك جهازا أمنيا همس في أذن مراجع عدة أن هناك من يريد افتعال مشكلة قد تصل إلى حد الضرب بالأيدي في مجلس الوزراء!
تاسعا، ما جرى في الشارع بين العونيين والجيش اللبناني تحديدا، لا يمكن المرور عليه مرور الكرام، ذلك أنها المرة الأولى، منذ عشر سنوات التي يوضع هذا الجمهور فيها في مواجهة المؤسسة الحاضنة لا بل المؤسِّسة للعصب العوني منذ ربع قرن حتى الآن، وهذا الأمر يطرح أسئلة كثيرة وكبيرة على الجانبين.
عاشرا، لم يكن هناك أحد أشد سعادة من سمير جعجع في معراب بالأمس. كل شيء يشي بالسعادة. مشهد الاشتباك في الشارع. مشهد مجلس الوزراء الذي حرره من حرج الحلفاء لو كان موجودا على الطاولة نفسها. بدا واضحا أن “إعلان النيات” جعل جعجع يتموضع في مكان يعطيه أريحية التحرك والاستثمار إذا ربح “الجنرال” والتحرر منه سريعا إذا خسر، خصوصا أنه ملزم كباقي حلفاء الحريري بتسديد فواتير سياسية سريعة حماية للحكومة التي لا يمكن تحمل خسارتها حاليا.
حادي عشر، اذا اعتمدت آلية لمجلس الوزراء في الجلسة المقررة بعد أسبوعين أم لم تعتمد، فإن استحقاق انتهاء ولاية رئيس الأركان في الجيش يحل في السابع من آب، فاذا تعذر التعيين، سيكون وزير الدفاع محكوما بالتمديد، وهو ما سيسري في نهاية أيلول على قيادة الجيش، في ظل تقديرات بأن التمديد حتمي في ظل استحالة توافر الثلثين على تعيين أي قائد جديد للجيش.
ثاني عشر، قالها جبران باسيل بالفم الملآن أمام كل الوزراء: “نحن لا يهمنا موضوع التعيينات الأمنية، بل تهمنا آلية العمل في مجلس الوزراء”، فهل إن ما جرى، ويمكن أن يجري، يصنف في خانة محاولة استثمار “حرب الصلاحيات” في المعركة العونية الداخلية على مسافة عشرة أيام من فتح باب الترشيح لرئاسة “التيار الحر”؟

السابق
وقائع جلسة الاستفزاز والصخب وافتعال الصِدام أي نتائج للتصعيد العوني وهدنة الأسبوعين؟
التالي
الشارع العوني فرض نفسه واسترجع الآلية ولكن دون ضمانات ؟ صدام بين الجيش والمتظاهرين أدى الى جرح 14 مدنياً و7 عسكريين