السلطان والصدر الأعظم.. وما بينهما!

على إيقاع الانتخابات النيابية المقبلة، تتقلب التحركات السياسية في تركيا. موعد الانتخابات تحدد في السابع من حزيران المقبل. وخلال شباط الحالي سوف تحدد الأحزاب مرشحيها، لتتفرغ على امتداد ثلاثة أشهر للحملات الانتخابية. واللجنة العليا للانتخابات حددت أسماء الأحزاب التي تتوفر فيها الشروط للمشاركة.

في العادة إن الانتخابات هي معركة على السلطة بين الأحزاب السياسية، وهي كانت هكذا في تركيا منذ أن جرت أول انتخابات ديموقراطية تعددية في العام 1946.
ومع أن البلاد شهدت ثلاثة انقلابات عسكرية في الخمسين سنة الماضية، وكان سيف العسكر دائم التصلت فوق رأس السياسيين، فإن مجرد إجراء الانتخابات النيابية والبلدية كان إسهاما في تعزيز ثقافة الانتخاب وتداول السلطة، وهذا بالضبط ما استفادت منه الحركة الإسلامية في تركيا، وجعلها بفضل نجم الدين اربكان تلتزم بأصول اللعبة الديموقراطية، على كل شوائبها، فقدمت للإسلام المعارض نافذة يعبر من خلالها عن كبته ومكنوناته بطرق سلمية بعيدا عن العنف.
ولقد مرت في تاريخ تركيا الحديث شخصيات وزعامات بارزة، مثل عدنان مندريس وسليمان ديميريل وبولنت أجاويد وطورغوت اوزال، وكلها عملت ضمن حدود القانون والصلاحيات، ولم تحاول أن تجير النظام لنفسها، بل لصالح الأحزاب التي مثلتها، فكسبت هي وأحزابها.
اليوم ونحن على بعد أربعة أشهر من انتخابات السابع من حزيران، يبدو المشهد مختلفا هذه المرة. وبعد 13 عاماً من زعامة رجب طيب اردوغان يخوض «حزب العدالة والتنمية» أول انتخابات نيابية من دون اردوغان، بل تحت قيادة شخصية أخرى هي احمد داود اوغلو، لتكون بالتالي اختبارا أول للحزب ولداود اوغلو من دون أردوغان. لكن الأمور ليست هكذا أبداً.
وكما كانت الانتخابات البلدية في 30 آذار الماضي اختباراً لقوة أردوغان، والمؤشر لاحتمال ترشحه للانتخابات الرئاسية من عدم ترشحه، فإن الانتخابات النيابية المقبلة ستكون الممر الذي يخدم تطلعات أردوغان ليكون من جديد الحاكم المطلق، شكلاً ومضموناً. ففي تركيا رئيس الحكومة هو مركز الثقل في السلطة التنفيذية، حيث تتمركز فيه مختلف الصلاحيات المهمة، وهو صاحب القرار الأول في البلاد. ومع ان رئيس الجمهورية يملك الكثير من الصلاحيات، لكنها غير كافية للتقرير، بل يمكن له من خلالها ممارسة دور المعرقل او المشاغب.
هذا الواقع يصطدم بطموح أردوغان، الذي اعتاد أن يكون هو كل شيء، ولا يناسبه ان يكون رئيساً شكلياً للبلاد مكبل اليدين. وهو لم يتوان عن محاولة ملء هذا الفراغ في سلطته وسلوكه، من خلال ممارسة دور الرجل المقرر في البلاد باختيار احمد داود اوغلو خليفة له في الحزب والحكومة، كشخصية وفية له ومطيعة. وهو السبب نفسه الذي جعل اردوغان يطيح بانقلاب الرئيس عبدالله غول، ومنعه من العودة إلى رئاسة الحزب والحكومة، لأنه أقل تبعية له.
غير أن اردوغان، من موقعه كرئيس للجمهورية، لا يستطيع أن يمارس بسلاسة وسهولة، والى الأبد دور المغتصب ضمنا لصلاحيات رئيس الحكومة، وإدارة البلاد ورئيس الحكومة بـ «الريموت كونترول»، فكان لا بد من العمل على طرق وأساليب أخرى تنهي جلجلة الازدواجية في السلطة والقرار.
لذا فإن الانتخابات النيابية المقبلة ستكون بالنسبة إلى أردوغان خاتمة الأحزان، وبداية الأفراح والليالي الملاح في «القصر الأبيض» الجديد، بغرفه الـ1150، والذي كلف 750 مليون دولار.
يريد أردوغان تغيير الدستور والقوانين وفقا للموقع الذي يكون فيه. يريد أن تكون الصلاحيات المقررة والمطلقة حيث يكون. أي الدولة بخدمة الشخص، والدستور بخدمة الشخص، وكل شيء بخدمة الشخص.
يريد اردوغان من الانتخابات النيابية المقبلة أن تكون المعبر الحتمي إلى تغيير النظام في تركيا، من برلماني إلى رئاسي. لأنه في ظل بقائه خمس سنوات في رئاسة الجمهورية، وقابلة للتجديد خمس سنوات أخرى، يريد أن يكون، من موقع رئاسة الجمهورية، الحاكم المطلق في العشر سنوات المقبلة، كما كان الحاكم المطلق، من موقعه كرئيس للحكومة، في السنوات الإحدى عشرة التي مرت.
لكي يصل اردوغان إلى مبتغاه وتعديل الدستور يحتاج إلى أن يحرز «حزب العدالة والتنمية» انتصاراً واضحاً وصريحاً وكبيراً في الانتخابات النيابية المقبلة. يحتاج كخيار أفضل أن يحصل الحزب على 367 مقعداً نيابياً، من أصل 550 مقعداً هو مجموع أعضاء البرلمان، أي نسبة الثلثين، وهي المطلوبة لتعديل الدستور في البرلمان. وإذا لم ينل التعديل موافقة الثلثين، فيحق له إذا نال ما بين 330 و366 صوتاً أن يحال إلى استفتاء شعبي ليقرر الشعب مصيره.
أما إذا نال أقل من 330 صوتاً فلن يبصر النور. لذا فإن معركة اردوغان هي معركة حصول الحزب على الثلثين، أو على الأقل 330 نائباً، وما عدا ذلك ستكون الأمور معقدة وخاضعة لمساومات مع الأحزاب الأخرى.
لن يقف اردوغان متفرجاً على الانتخابات التي يريدها انتخابات له شخصيا. صحيح أن هناك رئيساً جديداً للحزب وللحكومة، ويخوض الانتخابات باسمه وباسم الحزب، لكن في الحقيقة هي انتخابات اردوغان وليس داود اوغلو. وهنا مفارقة مأساوية بامتياز، يمكن أن تشبه الملاحة الإغريقية في تراجيديتها. وهي أن داود اوغلو مطالب بأن يبذل أقصى الجهد لينتصر حزبه في الانتخابات، وليثبت زعامته له في أول اختبار له، لكن بمقدار ما يكون الانتصار كبيراً بمقدار ما يكون ذلك لصالح اردوغان، الذي يريد تغيير النظام وتهميش موقع رئاسة الحكومة، وكل المواقع الأخرى في الدولة. أي أن داود اوغلو مطالب بانتصار يستفيد منه غيره.
وهنا إذا كان داود اوغلو غير مقتنع بالتغيير وتعديل النظام إلى رئاسي، فقد لا يكون لصالحه أن ينتصر الحزب، لا بنسبة الثلثين ولا بأصوات أقلها 330، بل أن يحصل على مجرد الغالبية المطلقة، أي 276 نائباً وما فوق وصولا إلى 329 نائباً، ليبقى النظام حينها على حاله، وليبقى داود اوغلو بعيداً عن كوابيس اردوغان الرئاسية.
هذه المعادلة تطرح إشكالية موقف داود اوغلو من النظام الرئاسي. المفارقة أن داود اوغلو لم يعبر حتى الآن عن موقف واضح من هذه المسألة. ما يراه أن النقاش حول هذه المسألة ليس صائباً. ويقول إن «المسألة ليست في شكل النظام بذاته بل في طبيعة النظرة إليه. النظام البرلماني هو نظام البلاد اليوم، لكن ليس من أي دليل على أن النظام الرئاسي يؤدي إلى الحكم الدكتاتوري». موقف ملتبس، لا مؤيد ولا معارض، فلا يريد استباق الأمور.
وللمفارقة أن تأييده للنظام الرئاسي جاء على لسان اردوغان نفسه، وهو «أن أحمد خوجا لا يعارض النظام الرئاسي». ربما يكون ذلك لأن داود اوغلو يكفيه النعمة التي منحها اردوغان له، وهي أن يكون رئيسا للحكومة وللحزب، ولو لفترة قصيرة. لكن لا شك أن داود اوغلو، الوفي لسيده، لا يعدم طموحات أبعد، وهو المنظر الأول والأكبر لإحياء النزعة السلجوقية – العثمانية الجديدة، فلماذا لا يكون هو، ولا يزال العمر أمامه، «الباديشاه» أو «الباديشاه الثاني» بعد أردوغان، حتى يتخلى عن موقعه القوي الحالي ويصبح، في ظل سلطنة اردوغان، مجرد صدر أعظم؟.

(السفير)

السابق
تفجير سيارة قيادي في حماس في غزة
التالي
إزاحة الستارة عن لوحة أطول علم في لبنان في ثكنة ضبيه