«علي بونابرت» في ربوع مصر لا «صدمة حضارية» ولا شرعية دينية

نحن الآن في العام 1798؛ أي بعد تسع سنوات على قيام الثورة الفرنسية العظيمة، وأقل من مئة وخمس وعشرين سنة على انهيار السلطنة العثمانية. هذه الأخيرة، المريضة بتهالكها، فتحت قبل ذلك بقرن شهية دول صاعدة، مثل بريطانيا وفرنسا وروسيا. نابوليون بونابرت الذي استولى على قيادة فرنسا بالحرب على إيطاليا، يشعر بأنه حان أوان مواجهة الإنكليز في البحار، وبلوغ الهند، «جوهرة» التاج البريطاني ومنبع مواده الأولوية وغناه الفاحش. فيقرر تجهيز جيشه لمهمة سرية لغزو مصر، الولاية العثمانية الثمينة. يلخص هذه الحملة في مذكراته اللاحقة بالقول: «مصر هي مفتاح الهند. ومالطا هي مفتاح مصر». في طريقه الى مصر عبر البحر المتوسط، يغزو مالطا ويكسر مقاومتها وينهب خيراتها، ويأخذ معه مالطيين يتكلمون العربية، يساعدونه في مهمة الترجمة عندما يبلغ هدفه.

تنتهي حملة بونابرت على مصر عام 1801، بعدما تهزمه الجيوش التركية بمؤازرة القوى المحلية والانكليز، على أبواب مدينة عكا الفلسطينية (السورية)، فيما يطرده الإنكليز من الساحل الاسكندراني، على شواطئ أبو قير. فيعود الى فرنسا، وكأنه أحرز انتصاراً تاريخياً استراتيجياً، ليعزّز سلطاته ويوسعها، فيتوج نفسه بعد ذلك امبراطوراً ذا سلالة ووراثة؛ مستكملا بذلك خرقه التام لمبادئ الثورة الفرنسية، بعدما أمعن في هذا الاختراق طوال السنوات الثلاث التي قضاها في مصر، غازياً، محتلا، في مهمة وصفها بأنها «حضارية».

ما هي الانجازات الحضارية تلك؟ أولا، في روح الحملة نفسها، التي سعى قائدها لإصباغها بملامح العلم والتقدم. كل هذه السفن والمدافع والأنفار، والضباط والأسلحة والذخائر، ومعهم علماء من مختلف المجالات، قدموا بداية إلى الاسكندرية، بنيرانهم المشتعلة، يطردون حرسها البحري، يقتلون من يقف بوجههم، فيحرقون ويقصفون ويذبحون (نعم يذبحون) من استحق الذبح، أي الغاضبين من غزوتهم. فهذا الجيش على حق مبين، جاء ليطرد المماليك الأشرار، وينشئ حكمه القائم على فكرة واحدة لا تبارحه: تحميل تكاليف هذه الحملة للأهالي، عبر فرض ضرائب ثقيلة عليهم، بعد اخضاعهم لقيادته.

المشوار عبر النيل نحو القاهرة من الاسكندرية، لا يختلف كثيراً: توغل جنوبا، خلف خراباً وحرائق في القرى العاصية على الهجمة المفاجئة، غير المفهومة، غير واضحة الغرض، سوى القهر والنهب. في القاهرة، يبدع نابوليون في الوحشية: لا يترك ثغرة يعلم من ورائها كنزاً ومالاً إلا ويطرقها، ضاربا بذلك في عيش الاهالي وامنهم وكرامتهم. الانتفاضات المتنقلة ضده لا تنتهي لحظة واحدة طوال هذه الفترة: غزوات لأحياء وقرى، ثم حرقها، عقوبات جماعية، سرقة موارد وخيرات، اغتصابات… كلها من نصيب من لم يذعن من المصريين لحكم بونابرت، ويرضخ لنظام ضرائبي يسرق من جيوب القليل مما يبقى منها، بعد خسائر إحراق القرى والأحياء…

في أوقات الهدوء، النسبي، عندما تكون آذان المصريين قادرة على الإصغاء، يعتمد بونابرت منذ البداية خطابا يعتبره ذكياً، لا تجد فيه أي أثر لخطاب الثورة الفرنسية. فهذه الأخيرة التي قامت على أساس الحرية والأخوة والمساواة، والتي قادها رجال معادون أشد العداء للدين وقساوسته، وجد بطلها الأغر نفسه يخطب بالجموع وكأنه شيخ معمم، أو أمير سلفي، قتل من قتل من أجل مصلحة الاسلام والمسلمين. فيبالغ أثناء إقامته في العاصمة المصرية في تنظيم الاحتفالات الدينية الإسلامية، ويفرض على جنوده وضباطه المشاركة في هذه الاحتفالات. وكل حجته الفلسفية انه مثل المسلمين لا يؤمن بالتثليث، كما يؤمن المسيحيون، إنما هو من دعاة التوحيد، تماما كما المسلمين؛ فيحتال بذلك، وبوضوح، على الدين الاسلامي وعلى قيم الثورة الفرنسية في آن. ما يتسبب بحالة من الضحك العارم، من الطرفين: الجنود الفرنسيون انفسهم، الذين كانوا يعودون الى ثكناتهم بعدما لعبوا دور المؤمنين الصادقين وسط جموع المحتفلين بالعيد النبوي الشريف، مثلاً. فتأخذهم نوبات ضحك متواصلة من هذه الكوميديا السوداء، هم الآتون لتوهم من ثورة تمردت على الكنيسة ولاحقت المؤمنين المسيحيين… ثم القاهريين أيضاً، الذين لم يصدقوا لحظة واحدة بأن سليل «القديس لويس»، صاحب أولى الحملات الصليبية، قصده شريف في هذه المذابح وما يليها من ضرائب، صادق النية ومكتمل الإيمان. فاطلقوا بحقه، كما يفعلون مع طغاتهم، النكات اللاذعة، واعطوه، لمزيد من السخرية، اسم «علي بونابرت».

يجب عدم انكار عبقرية بونابرت: فهو سبق أنور السادات في تسخير الدين لمصلحة حكم لا يملك الشرعية، أو القبول، أو الرضا اللازم، حتى في ظل حكم غير ديموقراطي وغير شعبي. ولكن إذا كان للسادات، أول «رئيس مؤمن» عربي معاصر، حيثيته الإسلامية المصرية، وعمق معرفته بالثقافة المصرية الشعبية، وكان هو الآخر عرضة للسخرية الشعبية… فماذا كان يدور في عقل الجنرال الفرنسي الجمهوري، الخارج لتوه من ثورة شعبية علمانية، ليضع على كتفيه الشال النبوي ويكاد يسجد ورعا وتدينا؟ انها الشهوة السلطوية التي تتجاوز الايديولوجيات، لتضربها في صميمها، فتحول الأبهى منها الى أداة سيطرة ونهب. إبحث عن السلطة ومتفرعاتها الضرورية…

وبونابرت، خلافا أيضا للاعتقاد السائد بيننا، لم يحدث في حملته العسكرية على مصر، أي نوع من أنواع «الصدمات الحضارية». أولا لأن مصر لم تكن أرضا بكراً عندما غزاها؛ أهلها يحاربون بالسيف كما بالبندقية، لهم نظامهم في التشاور الذي يقيم الاستقرار ويحافظ على التوازنات. ولكن الجيش الفرنسي يتغلب عليهم دائما لأنهم أقل تنظيما، إذ يلعب البدو، الفوضويون بالسليقة، دوراً هاماً في مقاومة هذا الغزو؛ فضلا عن سلاحهم الناري، الأقل جودة وتصويبا وتوفرا من السلاح الفرنسي؛ فهم يهبّون ضده بالعصي والحجارة والسيف، محمولين على أحصنة، هي نقطة تفوقهم الوحيدة، ومصدر إعجاب الفرنسيين بها. ثانياً، بونابرت لم يمكث في مصر أكثر من ثلاث سنوات، انتهت برحيله منها مهزوما. وعندما رحل عن مصر، كانت مدنها المحاذية للنيل قد أُشبعت حرقا ودماراً، بحيث لم يبق من الانجازات العلمية المبهرة التي وعد بها بونابرت، غير اطلال حملة ظالمة عبثية، زرعت الموت والخراب.

كل هذه الوقائع تجدها في كتاب الانكليزي جوان كول «بونابرت والجمهورية الفرنسية في مصر» (دار لا ديكوفرت). الكاتب مؤرخ بريطاني، وهو يحمل جديداً على التأريخ لحملة بونابرت، لم تعهده المراجع الغربية أو العربية، على حد سواء. من ناحية الفرنسيين، معروف ان بونابرت في مصر لم يلهم المحاولات التأريخية الجدية للتمحيص في يومياته ودقائقه، أو التمجيد بالإنجازات الحضارية التي حققها هناك. واذا أرّخوا، فبناء على مراجع فرنسية، أو أوروبية، لم تنظر الى بونابرت الا بصفته من الغزاة العظام، من سلالة الاسكندر المقدوني…

في كتاب جوان كول الأمر يختلف: المراجع عنده متنوعة، وهو يقف على مسافة واحدة منها، ويحكّم بينها بالمنطق: فاذا كانت هذه المراجع فرنسية، فهي لا تقتصر على مذكرات وشهادات نابوليون وضباطه ومؤرخيه المعجبين بشخصيته الفذة، إنما تعتمد أيضاً على الرسائل الحميمة التي كان يرسلها الجنود الى زوجاتهم، أو المذكرات اليومية لأبسط الرجال العاملين في الحملة من غير العسكريين؛ مثل خياط الحملة، الذي كان يسجل تلك اليوميات عبر رسائل منتظمة لزوجته. ولكن أيضا، هناك المراجع العربية، القديمة منها والجديدة، تبدأ بالإمام عبد الرحمن الجبرتي ويوميات الحملة الفرنسية وتنتهي بأبحاث الاستاذتين هدى لطفي نيفين مصطفى حسن مرورا عزت حسن افندي درندلي. يستشهد المؤرخ البريطاني بالجبرتي كثيرا، يقارن بين ما يكتبه هو، وما يسجله الفرنسيون متنوعو المراتب؛ فيعبر عن اعجابه به، بسخريته وعمقه وقوة عقله المجرد.

بعد هذا الكتاب، يمكن أن نتذكر جملة من الأشياء:

العثمانيون انهاروا بعدما تمكّنت قوى جديدة من قضم مناطق نفوذهم تدريجياً، على امتداد قرنين من الزمن.

الثورة الفرنسية اطلقت طاقة توسعية امبريالية، لا غرض لها سوى السيطرة على الكوكب عبر منافسة البريطانيين.

عندما لا يكون للحكم شرعية، ملكية كانت أم جمهورية، يقفز الدين، بصفته خزانا لا ينضب من اجتراع شرعيات.

السابق
المجلس الدستوري يؤكد على دستورية رد الطعن بالتمديد
التالي
معصوم والعبادي والجبوري سيبحثون ورقة الاتفاق السياسي