المعلم رفيق: حقك علينا

عمر قدور

لا تصعب على المتابع رؤية موسم العنصرية الجديد في لبنان إزاء السوريين، والمسألة لا تتعلق كما نحب أن نظن بتململ أو نقمة فرديين من هنا أو هناك. المسألة أبعد من ذلك، بخاصة عندما تصدر على التوالي من شخصيات إعلامية في منابر معروفة، وعندما يتماهى خطابها مع الخطاب الشعبوي المبسط، فتظهر العنصرية بريئة من شبهة التنظير لها، وتعبيراً عن بديهيات لا يطاولها الشك. هكذا يجوز للإعلامي طوني خليفة أن يتساءل بـ”براءة” عما يجبر اللبناني على إعادة استقبال السوري ما دام السوري الآخر يرفض استقباله في سوريا، وكأنه يتحدث عن بديهية وجود سوريَيْن، متغاضياً عن حقيقة أن النظام الذي هجّر السوري من البديهي ألا يسمح له بالعودة، إلا إذا كان يريد حقاً وضع اللبنانيين دولةً وشعباً في موقع النظام نفسه.
الكاتبة جمانة حداد لم تتخلف عن الركب، إلا أنها في مستهل مقالها “دمعة المعلم رفيق”، في جريدة النهار 11/8/2014، تستبق أي اتهام بالقول: “ليس في كياني ذرة عنصرية. أقول هذا بقوة”! أي أنها لا تترك لنا نحن القراء حرية استنتاج هذه المصادرة التي وضعتها في المقدمة من نصها نفسه، مثلما لا تترك لنفسها حرية الشك فيما يحتويه النص لجهة انحيازاتها ككاتبة وإنسانة. غير أن تبني الكاتبة لما يقوله محدثها “المعلم رفيق” لا ينبغي أن يثنينا عن الفصل بينهما، ولا عن الفصل بين المنطوق المتوخى من كل منهما، فالمعلم رفيق الذي يعمل نادلاً ثم مديراً لمطعم، ثم عاطلاً عن العمل بفعل منافسة العمال السوريين، لا يطرح نفسه داعية لفكرة، وهو يتحدث من موقع المتضرر المقهور، الموقع الذي يستدعي التعاطف حقاً، من دون أن يستوجب بالضرورة تبني الحل الذي يقترحه المعلم، أي إغلاق الحدود أمام النازحين السوريين.
“المشكلة ليست في طارق الباب.. المشكلة في فاتحه”، هذا ما يقوله المعلم رفيق ملقياً باللوم على المسؤولين عن فتح الحدود أمام السوريين، وهذا ما تؤكد عليه جمانة حداد وكأنه الحل السحري لمعاناة المعلم رفيق وأمثاله، وكأن هذه المعاناة بدأت فقط مع النزوح السوري الحالي، أي أن أرباب العمل اللبنانيين لم يكونوا سابقاً، وطوال الوقت، يستغلون قبول العمال السوريين بأجور أرخص لفرض مستوى أدنى من الأجور. يتحدث المعلم رفيق عن حد مئتي دولار كأجر شهري، وكما نعلم فإن ذلك حد يدنو من العبودية، فمَن يقبل بمثل هذا الأجر هو بالتأكيد شخص بلغ مرحلة مدقعة من العوز. من جهة أخرى، وصول الأجور إلى عتبة المئتي دولار يعني أن المنافسة امتدت لتنحصر بين السوريين أنفسهم، إذ ليس من المتوقع وجود عمالة لبنانية تقبل حتى بثلاثة أو أربعة أضعاف هذا المبلغ.
مشكلة المنافسة بين العمالة السورية واللبنانية ليست وليدة السنوات الأخيرة، وإن فاقمها النزوح السوري الكثيف، وينبغي طرح حلول لها تنصف المتضررين من “أصحاب البيت”. هكذا كان بوسع الكاتبة، على سبيل المثال، اقتراح إجراءات تُلزم أرباب العمل بتشغيل نسبة لا يجوز التنازل عنها من العمالة المحلية، وكان بوسعها أيضاً اقتراح إجراءات تُلزم أرباب العمل بحدود دنيا من الأجور لتمنع الغبن عن العمال لبنانيين كانوا أو سوريين، إلا إذا كان يجوز لرب العمل استغلال حاجة السوريين وفاقتهم. بوسع الكاتبة أيضاً مطالبة الحكومة اللبنانية باتخاذ إجراءات واضحة وصارمة للتمييز بين اللاجئين وبين السوريين الذين اعتادوا المجيء من أجل العمل، بدل إطلاق أحكام عامة عن أن مؤيدي النظام من بين السوريين في لبنان أكثر من ضحاياه، فالتمييز هنا ليس سياسي، هو إنساني في الدرجة الأولى بين أولئك الذين يأتون بدافع اقتصادي محض والذين يأتون هرباً من البطش.
لن ندخل باب السياسة لترديد العبارة المتداولة بين الكثير من السوريين: أعيدوا مقاتلي حزب الله إلى لبنان وحينها سيعود قسم كبير من النازحين. فالمعلم رفيق وأمثاله ليسوا مسؤولين عن أفعال حزب الله وقتاله خارج الحدود، مثلما لا ينبغي أن يتحمل السوري البسيط مسؤولية أفعال النظام. لكن ما لا يتحمل مسؤوليته المعلم رفيق تتحمل مسؤوليته مؤسسات إعلامية عندما تتغاضى عن جذور المشكلة وتشعباتها، وعندما يكون هذا التغاضي خدمة لتوجهات سياسية أو تسويات سياسية محلية؛ عندها لا يكون الهدف تقديم حلول للمعلم رفيق وغيره بقدر ما يكون توافقاً مع تفاهمات أكبر منه بكثير. إذ لا يخفى هنا تنامي ميل لبناني للتسوية بين معسكرين سياسيين، ومن مقتضيات التسوية هذه أن يجري استخدام ما حصل في عرسال للانقلاب على السوريين جميعاً، ولملاقاة موجة من العنصرية تجاههم بدأت فعلاً في أوساط تعاطفت معهم من قبل، ولئن كان لا يجوز تبرئة إرهابيي عرسال من التسبب بالموجة الجديدة فإنه لا يجوز تبرئة من يسعون إلى تسوية مع حزب الله من شبهة استغلالها وتعزيزها.
نعم، للنزوح وللتواجد السوري آثار قد تفوق طاقة لبنان، لكن تبسيطه هكذا لا يحل المشكلة. فأولاً يجب الاعتراف بأن هناك طبقات وشرائح لبنانية مستفيدة من الوضع السوري الحالي، يجب التمحيص في مقدار الرأسمال السوري المهاجر إلى لبنان، وفي المبالغ الضخمة التي ينفقها سوريون أثرياء أو متوسطو الحال، وفي الانتعاش الاقتصادي لشرائح لبنانية جراء ذلك، ولا نريد العودة قليلاً إلى الوراء لنشبه النزوح المالي الحالي بما حدث قبل نحو خمسة عقود جراء انقلاب البعث، حيث كانت بيروت المستفيد الاقتصادي الأول. في المقابل يجب ملاحظة آثار النزوح على الشرائح اللبنانية الأقل دخلاً، هذه الشرائح بحاجة إلى حل حقيقي يوازي الفائدة التي تحققت لقطاع المصارف والعقارات والخدمات وأرباب العمل عموماً.
مع ذلك، للمعلم رفيق نقول: حقك علينا. أما الكاتبة جمانة حداد فنتمنى عليها أن تترك لنا حرية الاستنتاج مما نقرأه في مرافعتها عن ذلك الرجل الستيني المقهور.

السابق
كهرباء لبنان تطلب من النيابة التمييزية والمراجع الأمنية وضع حد للوضع الشاذ
التالي
هل احتفلت الاشرفية بخطاب نصرالله عن داعش؟