كأننا عشية 1948 في استيلادنا النكبات

من موقعه كرئيس أركان للجيش العراقي أبّان نكبة فلسطين عام 1948، تُمثل شهادة الفريق الأول صالح صائب الجبوري (1898-1993) مرجعاً في إطارها العسكري، ترفدها نواياه الصادقة، واندفاع عروبي ووعي إستراتيجي بحنكة القائد المخطِط، مدركاً أبعاد الخطر الصهيوني على فلسطين والأمة العربية باكراً، فحذر بشدة وأسف للامبالاة العربية بأسىً أوجعه و- أوجعنا- كثيراً ولا يزال.

وبعيداً من الصفحات الموثقة بأسماء وتواريخ وتوقيت زماني ومكاني يعزز وثائقيتها، نلمس اختفاء خلفيات لمحطات من المشهد السياسي العربي العام والأوسع في تحليلاته، وعن العراق خاصة، فاقتصر المشهد على تذييلات مشتتة طي صفحات كتابه «محنة فلسطين وأسرارها السياسية والعسكرية» (عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – سلسلة مذكرات وشهادات) ربما اقتضتها طبيعة هذه المذكرات وكاتبها، ومنها على سبيل المثال أن الجبوري لم يقرب في تقييمه دور حلف بغداد في سياق الدور العراقي، ولا ثورة جمال عبد الناصر في تموز (يوليو) 1952 كرد على نكبة فلسطين عام 1948، ولم يشر إلى حرب الاستنزاف بعد هزيمة 1967، وأخفق في تقييم تجربة الثورة الفلسطينية كرد على هزيمة عام 1967، لكنه تمّكن من تبديد اتهام العراق بعدم المشاركة في القتال على أرض فلسطين عام 1948، و» فرية-أي افتراء – مقولة ماكو أوامر (ص521)، مع عرض سريع وضبابي في آن لمشهد المشاركة العراقية في حرب 1967 على الجبهة الأردنية، لكنه نجح في إعطاء صورة عن التشرذم العربي إزاء النكبة، والأثر الكارثي للدورين المصري والأردني في هذا السياق، وقد قارب حد الخيانة، (لم تعد سراً فقد صدرت كثيرة تؤكد هذا الأمر)، وأيضاً في تغليب الحكام العرب الجانب الشخصي على المصلحة العربية، هذا التغليب الذي لا يزال جاثماً وفاعلاً ومؤذياً بقسوة، وسبباً في إطالة أمد نكبة فلسطين وتشريد شعبها.

ما سبق النكبة

يعرض الجبوري، من الفصل الأول إلى السابع، الجوانب التاريخية لقضية فلسطين والتي سبقت نكبتها عام 1948، وللخطط الاستعمارية البريطانية في شأنها، ثم انتدابها عليها، ونكوص مواعيد ووعود الإنكليز للعرب تجاهها، ولثورة 1936 «ونداءات الملك عبد العزيز وملك العراق غازي وأمير شرق الأردن عبدالله لعرب فلسطين بالإخلاد إلى السكينة ريثما يتم التفاوض بينهم وبين الحكومة البريطانية، فلبّت الهيئة العربية العليا النداءات وقررت إنهاء الثورة – ص 102» (نشير هنا إلى وثيقة نشرتها مجلة الدراسات الفلسطينية رقم 78 – ربيع 2009 بعنوان «المقالات الصهيونية المدسوسة في الصحف اللبنانية والسورية أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى 1936-1939» للدكتور محمود محارب – دائرة العلوم السياسية في جامعة القدس، وفيها لائحة بأسماء الصحافيين العرب الذين تواصلوا مع وكالة التنمية اليهودية وتقاضوا أموالاً مقابل حرف اهتمامات القراء العرب عن الثورة وتركيزهم على قضايا طائفية وتافهة).

كما يعرض للتغلغل الصهيوني وبناء المستعمرات وتنظيم العصابات المسلحة، ولحالة فلسطين خلال الحرب العالمية الثانية، واجتماعات الرؤساء العرب في أنشاص وبلودان وصوفر وعاليه. ولقب فلسطين في الأمم المتحدة، وصولاً إلى الفصل الثامن وتشكيل للجنة العسكرية الدائمة عام 1947» وتمنيات الجبوري بـ «السرعة والكتمان»، واصطدام اللجنة باعتراض مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني على تسمية قائد لقوات المتطوعين (ص147) وتعيين فوزي القاوقجي لاحقاً إثر صدور قرار التقسيم، وما رافقه ذلك من «عدم كفاية القوات المخصصة من الدول العربية للقتال، فكان «مجموع الجيش العراقي أكبر الجيوش العربية التي اشتركت في حركات فلسطين يوم 15 أيار (مايو) 1948 وحتى انتهاء الحركات بتوقف القتال» (ص176)، على رغم «خشية عودة البرزانيين في شمال العراق واضطراب المنطقة وتجدد القتال فيها» (ص181).

ويعرض الجبوري موقف الجيش العراقي، وامتناع الحكومة البريطانية عن تجهيز هذا الجيش كواحدة «من موجبات خطتهم العامة في فلسطين»، إلى انسحاب بريطانيا من فلسطين وإنهاء انتدابها قبل الموعد المقرر، وكذلك فعل الجيش الأردني بقيادة الإنكليزي غلوب باشا، «الأمر الذي مكّن الصهاينة من الاستيلاء على تلك المناطق»، وارتكابهم مجازر في القسطل ودير ياسين وغيرها من المجازر (أنظر كتاب المؤرخ اليهودي إيلان بابيه بعنوان «التطهير العرقي لفلسطين»)، واحتلال المدن والبلدات.

وعن القوات النظامية في فلسطين أكد الجبوري أن «القيادة العامة للجيوش العربية في فلسطين كانت اسمية فقط، ولم تثبت وجودها وسيطرتها على القوات المشتركة في الحركات، وذلك لعدم انصياع بعض القيادات لها وتنفيذ أوامرها» (ص233)، خصوصاً الجيشين المصري والأردني، وتدني مستوى إحساس الملوك والرؤساء العرب بخطورة ما كان يجري في فلسطين (ص288)، وقصر اهتمامهم ورهاناتهم على تبادل الرسائل بين جامعة الدول العربية والحكومات العربية وهيئة الأمم المتحدة بشأن الهدنتين الأولى والثانية (الفصل العاشر)، إلى اغتيال الوسيط الدولي برنادوت» الذي كانت له اليد الطولى في تثبيت وجود إسرائيل» (ص321)، وانسحاب جيش الإنقاذ إلى لبنان يوم 30 تشرين الأول 1948، وتنافس حكومة عموم فلسطين التي تشكلت في غزة يوم 1 تشرين الأول (أكتوبر) 1948 برئاسة أحمد حلمي باشا مع لاجئين فلسطينيين بايعوا الملك عبدالله في أريحا في 1 كانون الأول (ديسمبر) 1948 مطالبين بضم فلسطين إلى شرق الأردن، وصولاً إلى دخول العرب في مفاوضات الهدنة الدائمة في رودوس وتواريخها الموثقة وكانت قد بدأتها مصر في 7 كانون الثاني (يناير) 1949، وتبعها الأردن في 4 نيسان (أبريل) 1949، «وكانت تدور اتصالات ومذاكرات بين الأردنيين والصهاينة لا علم لنا بها ولم نتمكن من الوقوف على حقيقتها – ص455». (يمكن الاستفادة من كتاب عادل مالك بعنوان من رودوس إلى جنيف-ضياع فلسطين- دار النهار- بيروت وفيه توثيق لتلك المحادثات ونمائم رؤساء الوفود العربية وسعيهم إلى استرضاء إسرائيل وانشغالاتهم الشخصية).

لم يحمل الكتاب على أهمية وثائقه أي جديد على صعيد خذلان العرب فلسطين وقضيتها، وخطر المشروع الصهيوني على الأمة جمعاء، لكن شهادته ومن قلب الميدان في تلك الفترات العصيبة تثري أوراق هذه المحنة الممتدة بذات الأسباب، ونمطية آليات المعالجة المائعة، وتشجع ذوي التجارب من أصحاب الضمائر الحية أن يقبلوا على الإدلاء بشهادتهم «لتكوّن وعياً تاريخياً بتلك الحقيقة خارج الانفعالات وردود الفعل والمضاربات السياسية والفكرية» كما جاء في تعريف المركز للكتاب.

يقول الجبوري: «كان موقف البلاد العربية من إنقاذ فلسطين هو كثرة الكلام وقلة العمل المثمر، وكأن البلاد العربية ليست في حرب تتوقف على نتائجها كرامة العرب ومستقبلهم إلى أمد بعيد» (ص323) آسفاً «لأن الدول العربية لم تتمكن من توحيد السياسة الخارجية التي كانت تقضي بانتهاج خطة موحدة، فتأثرت الحركات العسكرية في فلسطين منذ البدء بالعوامل والمقررات السياسية التي أدت إلى الحالة القائمة الآن» (من رسالة له إلى وزير الدفاع العراقي أواخر كانون الثاني عام 1949)

ما الذي تغيّر من ذاك الذي اشتكى منه الجبوري؟ الجواب في قهرنا اليومي.

السابق
إحراق سيارات جديدة بالجنوب.. وحزب الله وحركة أمل على سكوتهما
التالي
الفرقة النيبالية تنظف قلعة دوبيه