اللعب في بيروت

لا تصح أي مقاربة لما جرى فجر الأحد في العاصمة اللبنانية من دون الأخذ في الاعتبار خلفيات التمويل والإسناد اللوجستي والأمني للشرذمة التي افتعلت الاشتباك في منطقة الطريق الجديدة البيروتية.

لا يحتاج المرء كفاءة استثنائية لاستيعاب معنى الاشتباك وتحديد من حرّض عليه ومن تأخر في تطويقه ومن سعى إلى تصويره على غير معناه الحقيقي. تكفي قراءة مقالات بعض المرتبطين بأجهزة وقوى معروفة على الساحة اللبنانية ليدرك أن وراء أكمة الاشتباك ما وراءها، وأن هناك من يعد العدة لإغراق بيروت في صراعات تشبه تلك الجارية في طرابلس وما تشهده عرسال وما وقع في صيدا صيف العام الماضي.

وبعدما وضع الجميع أوراقهم على الطاولة وصار اللعب مكشوفاً ويتراوح بين السذاجة والقحة، بات من الممل رؤية اللعبة ذاتها تتكرر مرة بعد مرة بالأدوات ذاتها وبالأساليب والأسماء والمسميات ذاتها. لكن صاحب الحاجة لا يمل ولا يكل من العمل على تنفيذ ما يؤمر بتنفيذه، وجلّي بهذا المعنى أن نشر الاضطرابات في مناطق ذات أكثرية طائفية معينة مطلوب لأكثر من سبب، وجلّي أكثر أن افتعال الاهتزاز الأمني في الأيام الأولى لحكومة الرئيس تمام سلام غاية بذاتها. ولن يتوقف «العقل» المخطط والمحرك لهذه الأحداث، المتصل بعضها ببعض اتصالاً غائياً، قبل أن يصل إلى ما يريد، ما دامت وسائله قوية على نحو لا تباريه مؤسسات الدولة المتهالكة ولا الفرق السياسية المعادية.

التصعيد في بيروت ونقل سيرة وسلوك زعماء العصابات المسلحة الذين يظهرون على شاشات التلفزة ويدلون بتصريحات يمليها عليهم مشغلوهم الأمنيون، لن تتمكن السلطة الرسمية من مواجهته في وضعها الراهن، فالمطالبة باعتقال هذا المسلح سيُرد عليها بطلب توقيف طريد في الجهة المقابلة، وبذلك يُسقَط في يد السلطة الرسمية المنقسمة والخاضعة لقرار المرجعيات الطائفية المسلحة أصلاً.

وهناك من يستمرئ نقل تجربتي «قادة المحاور» الطرابلسيين وأحمد الأسير الصيداوي إلى بيروت. غني عن البيان أن البيئة خصبة وعلى استعداد لاحتضان شتى أنواع الرعاع وشذاذ الآفاق والانزلاق إلى صراعات تافهة بين جماعات تخترقها أجهزة استخبارات شتى من بابها إلى محرابها، وتُطوِّعها لإنزال الإرباك والتخبط في ساحة الخصم.

الفشل في المواجهة الذي يطبع الساحة البيروتية، والسنية خصوصاً، متعدد الأسباب، يعود بعضها إلى نوع من البلادة السياسية والعجز عن مخاطبة جمهور تعب من الهزائم وانصرف قسم منه إلى الإصغاء لخطاب متشدد مسدود الأفق يعد بالانتقام والثأر للطائفة المطاردة والذليلة. وتابع قسم آخر نومه المطمئن إلى الحجم الكبير الذي يتمتع به واستحالة التوصل إلى أي تسوية سياسية في المستقبل من دون الأخذ في الاعتبار هذا الحجم وما يمثل من مصالح وارتباطات. يفوت أصحاب الرأي الأخير أن عالم اليوم يهتم بالنوع أكثر من اهتمامه بالكم.

تسليط شرذمة من الرعاع على منطقة تتميز بخصوصية واضحة في بيروت ليس صدفة ولا خبط عشواء، بل إن هناك من يقول للسنة اللبنانيين أنتم مهزومون سلفاً مهما فعلتم، وساحاتكم مخترقة وساقطة أمنياً وسياسياً، ولن تفيدكم المكابرة في شيء حتى لو فزتم مع حلفائكم بكل الانتخابات وشكلتم كل الحكومات، وسنحاربكم من داخلكم وننتصر عليكم كما انتصرنا عليكم من خارجكم في السابع من أيار (مايو) 2008.

يبقى أن الوسائل المتوافرة لدى السنة اللبنانيين في رد هذا التحدي، في الجانب السياسي قبل الأمني، ما زالت على حالها من البؤس والرثاثة منذ غزوة بيروت.

السابق
الميادين: المقاتلات السورية تحلق بمحاذاة الشريط الحدودي مع تركيا
التالي
كتاب «اسرائيلي» يؤكد سرقة اعضاء الشهداء الفلسطينيين