الانتفاضات في مواجهة الفتنة: من يزوّر الصراع السياسي ولماذا؟

تجتاح الفوضى، وغالباً مسلحة، الأرض العربية مشرقاً ومغرباً، بطول المسافة بين اليمن وتونس، ويضيع «الثوار» عن أهدافهم في بناء «الدولة» التي يطمحون إليها بديلاً من أنظمة الطغيان التي نجحوا في إسقاطها أو أنهم ما زالوا يجاهدون من دون أن تتوفر لهم صورة الدولة العتيدة التي يرغبون في بنائها.
يتساقط القتلى بالعشرات، في وتيرة يومية، في اليمن المهددة دولتها بالسقوط في دوامة الانفصال، وفي العراق التي لم تنجح قياداته السياسية (والدينية) في إعادة بناء الوحدة الوطنية التي كان قد صدعها حكم الطغيان ممثلاً في صدام حسين، ثم أجهز عليها الاحتلال الأميركي، في حين تلتهم المذابح والصدامات المسلحة في سوريا بين النظام فيها الذي عجز عن استيعاب روح العصر وبين معارضيه الذين تجاوزوا شعبه ومطامحه فجاؤوا من كل ناح، يريدون بناء «دولة الخلافة» بالعبوات الناسفة والمدافع وتكفير كل من لا يقبل «جاهليتهم الوافدة».
أما في لبنان الذي يعاني نظامه السياسي من خلل بنيوي فاضح عبر محاولة ادّعاء السبق إلى العصر في التقدم الاجتماعي، بينما أهل الطبقة السياسية فيه، حاكمون ومعارضون، يخوضون «معاركهم» التي تتسع للدول جميعاً بالسلاح الطوائفي الذي لا يمكن أن يبني وطناً، والذي يبقي «دولته» معرضة دائماً للارتجاج، بما يفتح الباب واسعاً أمام تدخل «الخارج»، الذي كثيراً ما انتخب له رؤساءه وعين حكوماته وحتى نوابه «ممثلي الأمة».
فإذا ما انتقلنا إلى الضفة الأفريقية للوطن العربي فلا بد أن نتوقف أمام الإنجاز الاستثنائي الذي حققه الشعب المصري عبر ثورتين شعبيتين على الطغيان، مع مرحلة انتقالية شهدت السقوط الذريع لـ«الإخوان المسلمين» الذين يسرت لهم المصادفات التاريخية أن يقفزوا إلى سدة السلطة، فلم يعرفوا كيف يسوسون الحكم فخلعهم… وها هي مصر تعيش مرحلة انتقالية تمهد لإعادة بناء الدولة بما يتوافق مع مطالب الملايين التي ملأت الميادين، مرة وثانية وثالثة، والتي تنتظر الآن إنجاز الدستور العصري والذي يحفظ ريادة مصر في بناء «الدولة»، ويحقق طموح شعبها إلى التقدم ويصلب وحدته الوطنية ممهداً لعودة مصر إلى لعب دورها القيادي في منطقتها العربية.
ولقد استقبلت بيروت، خلال الأيام القليلة الماضية، الكاتب المصري الكبير محمد حسنين هيكل، فاتسعت معه مساحة الحوار حول الوضع في مصر وآفاق تطوره وصيغة استقرار الدولة التي يعاد بناؤها في مناخ الثورة التي لمّا تغادر الميادين تماما، ومواقع القوى الجديدة والجيش والتيارات الإسلامية المعتدلة فيها، خصوصاً بعدما ميزت موقفها عن «الإخوان» رافضة طروحاتهم الانقلابية.
ومع أن الأستاذ هيكل لم يشفِ غليل أصحاب الأسئلة، لا سيما منهم أولئك القلقون على مصر ودورها مستقبلاً، خصوصاً وأنهم يتطلعون إليها كصاحبة الحق الشرعي في القيادة، عربياً، بل حصر إجاباته في التأكيد على «مدنية الدولة» وعلى أن الجيش لا يطلب السلطة وصولاً إلى أن الفريق أول عبد الفتاح السيسي لا يسعى إلى الرئاسة ولا يريدها، بل هو يعمل من ضمن قيادة الحكم المؤقتة، من اجل إنجاز صيغة الحكم في الدولة الديموقراطية التي استولدتها الثورة بدستورها الجديد، وبمؤسساتها التي سوف تنتخب في المواعيد التي حددها الدستور المؤقت.
تواترت الأسئلة فشملت الاقتصاد والإدارة والأوضاع المالية والعلاقة مع الإدارة الأميركية (واستطراداً الاتفاقات التي سبق عقدها مع العدو الإسرائيلي في ظروف ملتبسة)، وصولاً إلى العلاقات مع دول الخليج العربي، ومع السعودية على وجه الخصوص، لا سيما وقد سارعت هذه الدول إلى تقديم مساعدات وقروض سخية إلى الحكم الجديد في مصر.. وهو أمر غير مألوف، ومن الطبيعي أن يثير العديد من أسئلة القلق مع التخمين حول الهدف من هذا السخاء.
ومع حرص الأستاذ الكبير على عدم التوغل في استكشاف النيات السعودية خصوصاً والخليجية عموماً الكامنة وراء هذا التصرف، إلا أن شبح «إيران» قد حام فوق جلسات الأسئلة المفتوحة على استقراء النيات.
وكان طبيعياً أن يعاود الجميع قراءة خريطة التحولات في المنطقة لا سيما بعد التفاهم الذي تم التوصل إليه بين إيران والولايات المتحدة الأميركية (حتى لا ننسى المكالمة الهاتفية المباغتة بين الرئيس الأميركي اوباما والرئيس الإيراني الشيخ حسن روحاني على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة…، ثم الاتفاق الذي أعلن عن التوصل إليه حول «النووي» بين إيران ودول 5+1 في الأيام القليلة الماضية، والذي لا بد أن يكون له ما بعده.
بعيداً عن مناقشات الأستاذ هيكل اللبنانية، فلا بد من ملاحظة التطورات المتسارعة على صعيد العلاقات بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي: فلقد توالت زيارات مسؤولين خليجيين إلى طهران، ثم جال وزير خارجية إيران على عدد من هذه الدول، وسادت لغة جديدة في الحديث عن مستقبل التعاون بين «الجيران» بعدما كانت تظلل أجواء العلاقات بينها غيوم التهديدات واللهجة شبه الحربية.
وتبدى واضحاً أن ثمة تباينات في ما بين الخليجيين أنفسهم، وعلى وجه التحديد بين السعودية من جهة وعدد من الدول الخليجية، بينها الكويت وقطر والإمارات، في حين اندفعت سلطنة عمان إلى إعلان اعتراضها على النهج المعتمد في تلقف «المبادرة الإيرانية» لمحاولة تطبيع العلاقات مع عرب الجزيرة والخليج وتجاوز المناخ المأزوم الذي كان يفسح في المجال لتدخل الدول الأجنبية من اجل الحفاظ على … سوق السلاح.
وسرعان ما اتخذت الأزمة طريقها إلى العلن عبر مواقف رسمية، أكثرها صراحة ما أعلنه سلطان عمان، الذي نادراً ما يجهر بآرائه، في منتدى الأمن الإقليمي الذي انعقد في البحرين،عشية دور الانعقاد العادي لقمة مجلس التعاون الخليجي التي افتتح أعمالها يوم أمس الثلاثاء.
ما لم يقله سلطان عمان، وإن كان يتردد في المحافل العربية عموماً، أن ثمة أطرافاً متضررة من أية تسوية أو تهدئة للعلاقات التي شهدت توتراً حاداً بين إيران والخليجيين بقيادة السعودية، لا سيما أن هذا التوتر قد شهد في تجلياته العلنية احتداماً سياسياً سرعان ما أعطي أبعاداً طائفية بل مذهبية.
والحقيقة أن المشرق العربي يشهد منذ سنوات صراعاً سياسياً سرعان ما اتخذ تجليات ومواجهات شبه عسكرية بالواسطة بين إيران وبين السعودية على وجه الخصوص، على «جبهات» العراق وسوريا ولبنان، وإن بقيت الذروة ممثلة في الحرب على سوريا وفيها، بكل التداعيات الدموية التي بلغت إحدى تجلياتها في الهجوم الانتحاري على السفارة الإيرانية في بيروت.. ومع أن طهران سارعت، ومنذ اللحظة الأولى، إلى اتهام إسرائيل بتدبيره والإشراف على تنفيذه، فإن أطرافاً سياسية لبنانية أبرزها «حزب الله» قد وجه اتهاماً مباشراً إلى السعودية بتدبير هذا التفجير والإشراف على تنفيذه، معتبراً انه جزء من مخطط لإشعال فتنة سنية – شيعية يمكن أن تطاول نيرانها المنطقة جميعاً.
واضح أن الصراع سياسي أساساً، لكن دمغه بالطابع الطائفي أو المذهبي يستهدف استنهاض «السنة» جميعاً لمواجهة «خطر الاجتياح الإيراني» متستراً تحت الشعار «الشيعي».
وواضح أيضاً أن الانعطافة الأميركية ممثلة بفتح باب الحوار المباشر مع إيران قد استفز السعودية وأثار غضبها، ولم تنفع في تهدئته زيارة وزير الخارجية الأميركي، ما استدعى اتصالاً مباشراً من الرئيس الأميركي اوباما مع ملك السعودية عبد الله بن عبد العزيز.
على وقع هذه التطورات جميعاً لا بد من إعادة قراءة المخاطر التي تتهدد الانتفاضات الشعبية التي تفجرت في معظم أنحاء الوطن العربي مشرقاً ومغرباً… فالفتنة تنذر بالتهام الثورة، وتأخذ الناس بعيداً عن مطامحهم وعن همومهم الفعلية لتذروهم مع الريح، وتجهض الانتفاضات الرائعة التي بشرت بانبلاج فجر الغد الموعود.

السابق
الرئيس المقبل: للبنان أم لـ “حزب الله”؟
التالي
بكركي تراكم خسائرها: الــرئاسة بعد قانون الانتخاب؟