المعجزة السورية

عندما سئل وزيرا الخارجية الاميركية جون كيري والروسية سيرغي لافروف في مؤتمرهما الصحافي في جنيف الذي اعلنا فيه الاتفاق على تجريد سوريا من اسلحتها الكيميائية، عمن سيدفع نفقات هذه العملية تلعثم لافروف والمح الى دول يفترض ان تتحمل هذا العبء،بدلا من الامم المتحدة، فما كان من كيري الا ان مازح الصحافيين قائلا: “سنرسل سيرغي الى هذه الدول لكي يجري الترتيبات اللازمة”..

انفجرت القاعة بالضحك الذي توج الود الظاهر بين الرجلين، في تصريحاتهما وحركاتهما وتعابير وجه كل منهما، كما في استنتاجهما الجازم بان العلاقات الثنائية بين بلديهما هي على احسن ما يرام، بعكس الشائع عن حرب باردة جديدة، بنيت على خلاف محدد ومحدود حول سوريا، انتهت مفاعيله الان، وانضم الى ملفات عديدة يجري التعاون بشأنها بين واشنطن وموسكو، اهمها ايران، حيث يصعب الحديث عن وجهتي نظر اميركية روسية تجاه الملف النووي الايراني، بل عن مقاربة تكاد تكون متطابقة.

الانطباع الذي تركه ذلك الاتفاق الاميركي الروسي، والجو الحميم الذي ساد الاعلان عنه وعن الالتزام المتبادل باحترامه وتنفيذه، حتى ولو اقتضى الامر دعوة مجلس الامن الدولي الى التحرك وفق الفصل السابع، اذا رفض النظام السوري تسليم اسلحته الكيميائية، هو ان عهدا جديدا من الوفاق الدولي قد بدأ، وهو يشبه الى حد بعيد ذلك العهد الذي ارساه الزعيمان الراحلان الاميركي ريتشارد نيكسون والسوفياتي ليونيد برجنيف في سبعينات القرن الماضي.. بناء على معاهدة لخفض الاسلحة الاستراتيجية، ما زالت سارية المفعول حتى اليوم، بل يجري تطويرها بين الحين والاخر.

كان السلاح الكيميائي السوري عقبة اخيرة، امام هذه الاستعادة المنشودة للوفاق بين دولة عظمى باتت مضطرة الى التواضع في طموحاتها الدولية، وبين دولة كبرى ترى ان مثل هذه الطموحات هي ملاذها الوحيد لكي لا تنحدر مكانتها العالمية الى مرتبة ادنى : سوريا هي الاختبار الذي يتوقع ان يؤسس لتطور اضافي في العلاقات الاميركية الروسية، لا ان يؤدي الى افتراق او نزاع، او الى زعامة وهمية، يمكن ان تبنى على تنافس مزعوم على بلد صغير أحالته حربه الاهلية الى خراب لا يغري احدا.

الاتفاق هو ذروة الوفاق الدولي، لا مقدمته، وقد حقق لواشنطن وموسكو ما كانتا تحلمان به بالضبط: ابدت العاصمتان قدرا كبيرا من المسؤولية عن ازالة تهديد خطير لمعاهداتهما الخاصة بالحد من اسلحة الدمار الشامل، وعن اخراج السلاح الكيميائي من جميع الحروب والصراعات التقليدية او الاهلية، واستبعاد فرصة وقوعه يوما ما في ايدي ارهابيين. وهو ما يتعدى سوريا وازمتها الراهنة، وان كان يطمح الى ارساء اسس جديدة لحل سلمي لتلك الازمة المستعصية.

وبهذا المعنى، يبدو الاتفاق اكبر من اي طرف من اطراف الحرب في سوريا، لكنه يصلح للاستثمار من قبل احدهم. فهو يجرد النظام من اهم عناصر قوته العسكرية واحد آخر شروط بقائه. وهو قد شرع في استخدام هذا السلاح بشكل محدود وتدريجي فقط لكي يقدم نموذجا عما يمكن ان يحل بسوريا اذا ما اصبح وجوده ومصيره مهددا في دمشق. لذلك ، الشك وارد في انه لن يسلم مخزونه الكيميائي كاملا، بل سيحتفظ بجزء منه للاستخدام في اللحظات الاخيرة من المعركة..علما بان تجربة الرئيس العراقي السابق صدام حسين لا تخدم هذه الفرضية.

في المقابل، يوفر الاتفاق غطاء جديدا للمعارضة السورية يعادل الحظر الجوي بل يفوقه اهمية، ويحمي جمهورها من عمليات الابادة الجماعية التي كانت تلوح في الافق بعد مجزرة الغوطة، ويشجعها على تطوير وتحسين ادائها العسكري والسياسي، لا سيما في ضوء صفقات التسليح الواسعة التي انضم اليها الاميركيون اخيرا، ولم يحتج عليها الروس كثيرا.. علها تساهم من وجهة نظرهم في تسريع عقد مؤتمر جنيف الثاني المنشود في نهاية العام الحالي.

الاتفاق فرصة للنظام لكي يقلع عن خيار الابادة الجماعية، ومناسبة للمعارضة لكي تنضج قليلا وتتوازن كثيرا..حتى يكون بامكان الاميركيين والروس معا، ان يجترحوا المعجزة التي طال انتظارها.

السابق
سباتُ التأليف طـويل
التالي
وقف تخصيب اليورانيوم