قهوجي من التعيين الى التمديد

هي فعلاً لم تقف على قهوجي. فالتمديد الـ”ضارب طنابو” والذي استفزّ العماد ميشال عون وحده في مناسبتين استحال تأجيل تسريح. سخطُ عون لم يحل دون خروج وزير الدفاع في الأمس مانحاً عمراً جديداً لقائد الجيش جان قهوجي… قائد لا خلاف على تاريخه وحاضره ولا خوف على سنتيْن إضافيتيْن يُمنح خلالهما الثقة بقيادة المؤسسة.

هو نفسه جان قهوجي، ذاك الرجل الذي لم يتغيّر. فمن عميد ركن يعمل بصمتٍ وحكمةٍ حتى في أشرس المعارك الى قائد يعمل بصمتٍ وحكمة حتى في أشرس المعارك. حكمة وصمتٌ لم تخدما قهوجي في غير مناسبة، ولم تحل دماء المؤسسة دون فتح النيران عليه على أكثر من جبهة. جبهةٌ بدت في كثير من الأحيان أقسى من جبهات عدة. جبهة لا تشبه تلك التي يخوضها العماد ميشال عون اليوم تحت راية “رفض التمديد لا رفض قهوجي”.

لم يُمنَح الحقّ…
لم تكن طريق قهوجي طوال سنوات خدمته الخمس في قيادة الجيش مزروعة بالورد، حتى يذهب بعضهم الى وصف حقبته بالأكثر صعوبة خصوصًا أنها أعقبت حوادث 7 أيار التي أرست أول خيوط عباءة الفتنة السنية-الشيعية جدياً، كما شهدت ولا تزال إحدى الأزمات الأكثر تعقيداً في سورية وما حملته من تبعات حدودية كثيراً ما كان الجيش طرفاً فيها أو مطالباً بأن يكون طرفاً فيها بإمكانياتٍ محدودة وبمظلةٍ سياسيّة واهية إن وُجِدت أصلاً. هي نفسها تلك المظلة التي لم تمنح الجيش حقّ حسم الميدان في طرابلس وحقّ عدم إخضاع عسكرييه للتحقيق في مقتل الشيخ أحمد عبد الواحد في عكار، وحقّ إخراس كلّ من يتجرأ على التشكيك في “نظافة” مهمّته في عبرا، وحقّ رفع الحصانة عن نائبٍ أهان رأس المؤسسة ومضى وكأن شيئًا لم يكن. لم يُمنَح القائد حقاً سوى الدفاع أمس عن تمديد غدا “مضغةً” في أفواه الكثيرين لدرجة كادت تلامس حرق اسم العماد قهوجي ودفعت بالكثيرين الى إيثار خيار التنحّي لو كانوا مكانه. خيار لم يتبنّه قهوجي نفسه عازياً ذلك في أمر اليوم الى الظروف والفراغ الذي سيحلّ بالبلد والذي يحتّم قرارات كثيرة.

أقسى…
قهوجي لم يجامل. لم يصفع. لم يعلِن موقفاً يُحسَب عليه. بدا أذكى من قائدٍ يواعد الصمت وسياسة التخفّي الإعلامية. الظروف والمعارك التي خاضها شاءت أن تحمّل مؤسّسته موقفاً سياسيًا وطائفيًا لا يعنيها في الأساس. كثيراً ما أجبِر على الردّ في بياناتٍ صادرة عن القيادة، كثيراً ما “حزّت” في نفسه حكايات “محاربة أهل السنة” تلك. كثيراً ما كان ينظر بحرقةٍ الى عناصر يحملون قلوبهم على أكفّهم ليلقوا حتفهم لا باسم الطائفة ولا المذهب بل برصاص أبناء الوطن أنفسهم. تهمةٌ بدا وقعها أقوى من مجابهة أكبر عصابات الخطف ومن توقيف أكبر المهربين واعتقال أكبر الشبكات العميلة وقطع الطريق على باخرة لطف الله2 ومجابهة العدو الإسرائيلي في العديسة وملاحقة مفجّري البحصاص وتفكيك الأجنحة العسكرية وحتى أقسى من معركة ضهر الوحش في العام 1990 التي خاضها قهوجي نقيباً وحرب تموز 2006 ومعركة العديسة 2008.

طباعان مختلفان
ربما يتساءل الكثيرون اليوم ماذا بين عون وقهوجي، وربما يتجاوز بعضهم هذه الفرضية ليتساءل: ماذا بين قهوجي والجميع؟ لا شيء بين عون وقهوجي سوى الاحترام. ورغم الاختلاف الكبير في الطباعيْن بحكم أن الأول يصرّ على التذكير بأنه ابن المؤسسة العسكرية “وهذا هو طبعي وهذه هي قضيتي”، يبقى الثاني مدرسة في الهدوء والصمت. إنه القائد الصامت الذي لم تستطع الآذان اللبنانية أن تألف صوته من قريبٍ أو من بعيد بسبب إطلالاته النادرة وعدم تصالحه، على ما يبدو، مع العدسات. أما بين قهوجي وجنبلاط فقصّة أخرى. قصة لا تخرج عن سياق “مزاجية” بك المختارة الذي نُقِل عنه في صوفر فتحه النار على قهوجي والجيش العام الفائت. ربما لم ينسَ قهوجي وربما لم يُعِر ذاك الكلام أهمية. إنه جنبلاط ببساطة. جنبلاط الذي بارك التمديد لقهوجي فجأة بلا سؤال أو عتاب.

علاقة محاذرة
لم يكن جان قهوجي رجلاً عادياً في ظروفٍ غير عادية. فالرجل واجه طوال خمس سنوات جبهتيْن قاسيَتيْن كادتا تقصمان ظهر الجيش: جبهة ميدانية تجلّت في غير مواجهة وغير شهيد، وجبهةٌ كلامية كسرت هدوء القائد ودفعته الى المطالبة برفع الحصانة النيابية عن معين المرعبي. “هو قائدٌ فاشلٌ” في نظر المرعبي، عبارةٌ تبناها “المستقبل” ولم يتبنّها. سارع الحريريّون يومها الى “إصمات” النائب الشمالي خوفاً من أن يُعمَّم كلامه على المدرسة الأم، ولكن تلك المدرسة لم تكن على علمٍ بأنها ستعود الى تبني خيار “ضرب” الجيش ولو لساعاتٍ عقب معركة عبرا الدامية. ساعات مرّت بسرعة ولكنها حفرت في قلب القائد دعمًا متزعزعاً سرعان ما تحوّل دعمًا كاملاً في كلام الرئيس سعد الحريري المبارك للتمديد قبل أن يعود ويترنّح بين واقعيْن-فرضيّتين: أولاهما استماتة المستقبل للدفاع عن أنصار الأسير الموقوفين وتعيين محامين لتبرئتهم من جريمة بلّ أيديهم بدماء 20 شهيداً عسكرياً، وثانيتهما محاولة تطيير كل الجلسات النيابية التي كانت تتجه الى إقرار التمديد لقهوجي بذريعة “ميثاقية الجلسة”. تراكماتٌ تكفي لترسم خطوط العلاقة المحاذرة بين قهوجي و”المستقبل”.

خرج منتصراً
29 آب 2008… 31 تموز 2013. قهوجي كان وعاد. من زمن “المرّ” الى الزمن “المرّ” عاد بعدما حمّله غصن “غصن” الغار مجدداً. عودةٌ لن تغيّر شيئاً في الرجل. فاليوم يتقدّم منه كبار الضباط ليهمسوا في أذنه: “سيدي العماد” فيردّ عليهم: “الجيش بقيادتي”. سيناريو سيتكرر عاميْن إضافيَّيْن. في الأمس خرج قهوجي منتصراً وربما لا… فالرجل لا يعرف ما ينتظره في أزقةٍ لبنانية فيها الصالح والطالح وفيها “العدو الداخلي” المتربّص كما الشموع والصلوات لصون الجيش وقائده… المؤجّل تسريحه ثلث ولاية.

السابق
تمثيل جريمة جمو اليوم.. وسعد يهدد
التالي
الجيش في عيده : حلم الدولة الذي لم يتحقق