هل المزاج السنّي ضد الجيش..؟

السؤال تفرضه تلك الحملة السياسية والإعلامية الممنهجة، التي تحاول تصوير الطائفة الكبرى في لبنان، وكأنها بمواجهة مفتوحة مع الجيش اللبناني!
فهل المزاج السنّي هو فعلاً ضد المؤسسة العسكرية..؟
وما هي أسباب الانتقادات التي يوجهها بعض نواب عكار أحياناً، إلى قيادة الجيش..؟
وهل انتقاد بعض الأخطاء والتجاوزات التي يرتكبها ضباط أو عناصر من الجيش، تعني رفض المؤسسة العسكرية، وإقامة حالة من العداء ضد الجيش الوطني؟
هذه التساؤلات، وغيرها كثير، لا تتطلب الخوض في التحليل والتنظير، بقدر ما تحتاج للعودة إلى الذاكرة الوطنية، وما تحويه من تجارب ومواقف سياسية ووطنية، في التعاطي مع المؤسسة العسكرية.
ليس في أدبيات القيادات السياسية السنّية ما يتنافى مع الدعوات المستمرة لتعزيز هذه المؤسسة الوطنية، وإبعادها عن زواريب السياسة المحلية، وأوحالها الوسخة، حتى تبقى فوق مستوى الخلافات والصراعات من جهة، ولتكون دائماً هي الضمانة والحامية للسلم الأهلي في لبنان.
{{ الرئيس صائب سلام خاض معركة سياسية شرسة ضد تدخّل «المكتب الثاني» في الشؤون السياسية، حماية للجيش من الانزلاق إلى لعبة السلطة، والوقوع في فخ الانقلابات، التي كانت رائجة في المنطقة العربية، في ذلك الزمن!
{{ الرئيس رشيد كرامي عارض بشدّة استخدام الجيش لحسم الخلاف مع الفصائل الفلسطينية بالقوة، وذلك لإدراكه بأن مثل هذه الخطوة تهدد وحدة المؤسسة العسكرية، وتقضي على أهم ركائز الدولة والسلطة الشرعية. ومخاوف الرئيس الشهيد كانت بمحلها، بدليل انقسام الجيش في حرب السنتين، وظهور ما سُمّي «جيش لبنان العربي».
{{ الرئيس رفيق الحريري، ومنذ أواسط الثمانينات، أي قبل وصوله إلى رئاسة الحكومة، ساعد بسخاء قيادة الجيش للحفاظ على مستوى فاعل للرواتب العسكرية، بعد انهيار الليرة اللبنانية أمام العملات الأجنبية، ولم يألُ جهداً لتوفير الدعم والتجهيزات اللازمة للجيش منذ تلك الفترة إلى ما بعد تسلمه رئاسة الحكومة.
وكان في مختلف مواقفه يعتبر أن الجيش هو الحامي الأوّل للوحدة الوطنية والسلم الأهلي، ويجب إبعاده عن ألاعيب المناورات السياسية الرخيصة.
{{ وكذلك بقي الحال مع الرئيس سعد الحريري، المعروف بأنه صاحب «الصوت العالي» في الدفاع عن الجيش، وتعزيز استقلالية القيادة العسكرية وحماسه للتمديد لقائد الجيش ليس خافياً على أحد!
وبالمقابل، فقد كان استخدام الجيش كأداة لحسم الصراعات السياسية، أو لتحويله إلى فريق على الساحة الداخلية، يؤدي إلى تصدّع المؤسسة العسكرية، وحصول انشقاقات في صفوف الألوية، وحتى على مستوى الضباط والجنود. هذا ما حصل عندما قصف الجيش الضاحية الجنوبية وحاصر منافذها، حيث انضم «اللواء السادس» إلى حركة «أمل» في «انتفاضة 6 شباط 1984»، وتكررت المأساة عندما خاض العماد عون حرب الإلغاء ضد القوات عام 1989.
* * *
لم يتحمّس «المزاج السنّي» لإنشاء ميليشيا مسلحة، كما حصل مع الطوائف الأخرى، وبقي رهانه الدائم والنهائي على الدولة، ومؤسساتها الشرعية، وفي مقدمتها الجيش الوطني.
وتوجه شباب عكار والضنية والبقاع الغربي وإقليم الخروب والعرقوب للانخراط في صفوف الجيش، ودخل العشرات من أبناء بيروت وطرابلس وصيدا الكلية الحربية، ليخدموا ضباطاً في المؤسسة العسكرية، ويمثل أبناء هذه المناطق النسبة الأكبر في عديد الجيش.
ولكن وقوع بعض الأخطاء، وتكرار التجاوزات في أكثر من مناسبة، وفي أكثر من منطقة ذات التواجد السنّي، أرخى بظلالات ثقيلة بين المزاج السنّي والقيادة العسكرية، مع الحرص الدائم على التمييز بين الجيش كمؤسسة وطنية، هي موضع احترام وتقدير من الجميع، وبين بعض الممارسات الخاطئة، والمثيرة للجدل والريبة، والتي يتحمل مسؤوليتها أفراد من العسكريين، سواء أكانوا ضباطاً أم جنوداً.
منذ حوادث 7 أيار في بيروت، وعدم تحرّك الجيش لحماية الأرواح والممتلكات، والإشكالات تكبر بين المزاج السنّي والقيادة العسكرية، والتي زادها تفاقماً، مسلسل الأحداث الأخيرة، من اغتيال الشيخ عبدالواحد في عكار، إلى مقتل خالد حميّد في عرسال، وما أثار من تداعيات، إلى الحالة المتفلتة في طرابلس على مسرح التبانة وجبل محسن، إلى التراخي في التصدّي لعمليات الخطف في اللبوة ضد شباب عرسال، وأخيراً إلى الغموض المحيط بعملية عبرا، ودور «حزب الله» في المواجهات، فضلاً عن التجاوزات التي أعقبت انتهاء العملية وذهب ضحيتها الشاب البيومي، إلى جانب الممارسات الأخرى التي شكلت استفزازاً لأهالي عبرا المنكوبين بمنازلهم وممتلكاتهم.
* * *
كان من المتوقع أن تبادر قيادة الجيش إلى إجراء تحقيق عسكري وقضائي شفاف، يضع النقاط فوق حروفها الصحيحة، ويقطع دابر الفتنة، ويضع حداً للإشاعات المغرضة، ولحملات الاتهام والتشكيك، ولكن ذلك لم يحصل، بل امتنع وزير الدفاع عن حضور اجتماع لجنة الدفاع النيابية، وعدم إرسال مندوب عنه أو عن المؤسسة العسكرية، في سابقة من شأنها أن تُشعل مشاعر الريبة، وتُثير المزيد من الجدل!
لم تقف الأمور عند تجاهل مشاعر الغضب والعتب لأهالي صيدا وعبرا والمناطق المتضررة الأخرى، بل عمد أصحاب الحملات المغرضة والممنهجة للإيقاع بالمؤسسة العسكرية ومكانتها الوطنية، إلى فبركة الأفلام الإعلامية حول الوثائق والتسجيلات التي صودرت من مقر الشيخ الأسير، ثم كَيْل الاتهامات إلى القيادة السياسية الصيداوية، وخاصة النائب بهية الحريري، التي لعبت دور الإطفائي لإخماد النار في مهدها، والحؤول دون تحولها إلى فتنة مذهبية لا تُبقي ولا تذر!
ورغم كل ذلك، ما زال المزاج السنّي يراهن على دور الجيش الوطني في حماية السلم الأهلي، وصون ما تبقى من هيبة الدولة ومكانتها.
ولكن من حق نواب الأمة أن يطالبوا بوقف الممارسات الخاطئة، والتجاوزات المتمادية من الضباط والأفراد، وإحالتهم إلى التحقيق والتأديب، والتأكيد على أن جميع المناطق، وجميع اللبنانيين، يعاملون على قدم المساواة والحفاظ على النظام العام من قبل الجيش.
المزاج السنّي ليس، ولا يمكن أن يكون، ضد الجيش، ولكنه بالقدر نفسه، يُشدّد على اعتماد وحدة المعايير في التصدّي للمظاهر المسلحة وللمربعات الأمنية، التي تشكل خطراً على السلم الأهلي والاستقرار في لبنان!

السابق
ياسمين لرامز: نزلت من نظري
التالي
“معاً نرمّم الجراح” توزّع حصصاً غذائية على أهالي عبرا