المزاج السني يغادر مشروع الدولة ويتجه نحو التشدد

رفع صورة الشيخ أحمد الأسير مكان صورة الرئيس سعد الحريري في ساحة عبد الحميد كرامي يوم الجمعة الماضي
يبدو أن المزاج السنّي في طريقه للخروج من «معزوفة» مشروع الدولة، والحرص على الأجهزة الشرعية، بعدما تبين له، وفي مناسبات متعددة، أن الدولة تكاد تتحوّل إلى شعار فارغ المضمون، وأن الأجهزة الأمنية الشرعية غير قادرة، ليس على الحفاظ على الأمن والحقوق والممتلكات وحسب، بل هي تخضع لحسابات حيناً، ولضغوطات أحياناً، لا علاقة لها بموقع الدولة، ولا بدور أجهزتها ومؤسساتها المعنية!
ولم تعد نغمة «أم الصبي» تلاقي هوى في المزاج السنّي، بعدما انكشف إصرار الطوائف والفئات الأخرى، على ترتيب أولوياتها وفق مصالحها وارتباطاتها، ضاربة عرض الحائط بمصالح الوطن، ومتجاوزة دور الدولة، كحاضنة لجميع مواطنيها على قدم المساواة!
ولا نذيع سراً، إذا قلنا أن مشاعر الإحباط والاستهداف التي بدأت تسود أوساط الطائفة السنّية، منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، بدأت تتحوّل في السنتين الأخيرتين إلى حالة من الغليان والغضب، بعدما تكررت الحوادث والضربات ضد مكون أساسي من المجتمع اللبناني، وقفت الدولة أمام بعضها عاجزة، مثلما حدث في 7 أيار الأسود، ومسلسل الاغتيالات الذي كان آخر ضحاياه اللواء وسام الحسن، فيما شاركت أجهزة الدولة في بعضها الآخر، مثل حادثة اغتيال الشيخ عبد الواحد في عكار، والحوادث المتكررة في عرسال، والتجاوزات التي حصلت في اشتباكات عبرا. طبعاً إلى جانب ترك العاصمة الثانية تحت رحمة الأمن المتفلّت، وعدم تنفيذ خطة أمنية حازمة تحفظ للفيحاء وأهلها الأمن والأمان والاستقرار!

يحاول رؤساء الحكومات، ومعهم تيّار المستقبل وسياسيون آخرون، عدم تفشي مشاعر الغضب والنقمة على الدولة، والتأكيد على دور المؤسسات الشرعية والأجهزة الأمنية في حفظ السلم الأهلي، ولكن يبدو أن أهل الاعتدال هؤلاء أصبحوا في وادٍ، وواقع المزاج السني في وادٍ آخر، حيث بدأت تيارات التشدّد تلاقي آذاناً صاغية، وراحت الخطب النارية لعدد من المشايخ والعلماء تخترق الرؤوس الحامية، وترفع من معنويات النفوس اليائسة، وأصبح بإمكان القاصي والداني أن يلاحظ حجم تمدّد هذه التيارات في المرحلة الأخيرة، على حساب أهل الاعتدال، وفي مقدمتهم تيّار المستقبل، الذي يُعاني انحساراً في شعبيته التقليدية الواسعة، في أكثر من منطقة إسلامية.
نمو ظاهرة الشيخ أحمد الأسير السريع، كان أحد الدلائل على حالة الفراغ التي خلّفها تراجع تيّار الاعتدال، وسطوع نجم العلماء السلفيين في طرابلس والشمال، وامتداد نفوذهم إلى البقاع والجنوب وصيدا وبيروت، دليل آخر على مدى تجاوب المزاج السنّي مع دعوات التشدّد، فيما مفتي طرابلس والشمال الشيخ مالك الشعار اضطر إلى مغادرة مدينته قسراً، بعد التهديدات الجدية التي تلقاها، وكأن الهدف هو إخلاء الفيحاء من أبرز رموز الاعتدال فيها.
أكثر من ذلك، وأشد خطورة.
أن يتجرّأ عدد من شبان طرابلس على إنزال صورة للرئيس الشهيد رفيق الحريري وخليفته الشيخ سعد، وما يمثلان في المعادلة الوطنية، وفي الوجدان السنّي والشمالي بالذات، ليرفعوا مكانها صورة للشيخ أحمد الأسير، فهذا يعني أن الأرض تفرز واقعاً جديداً في المزاج السنّي، لا بدّ من التنبه له، والتعامل معه بكثير من الحكمة والديناميكية، لأنه أصبح من الصعب استيعابه برايات الدولة والشعارات المعروفة، التي أثبتت التجارب أنها لا توفّر الحد الأدنى من الضمانات الوطنية البديهية.
وفيما كان أهل الاعتدال، من رؤساء حكومات ورجال دين وسياسيين، يحاولون لملمة جراح صيدا، ويرفعون شعار الالتفاف حول الجيش، باعتباره المؤسسة الوطنية الأولى الضامنة لوحدة البلد والسلم الأهلي، كان أنصار التيارات المتشددة ينشرون الأفلام والوثائق التي تُبرز تجاوزات بعض العناصر العسكرية ضد الشبان الموقوفين، ويطلقون على مواقع التواصل الاجتماعي ما يُظهر مشاركة عناصر حزبية (من حزب الله) بالقتال ضد مجموعة الأسير، الأمر الذي ألهب حالة الغليان والغضب، وتسبب ببعض الإحراجات لدعاة الاعتدال.

ومما فاقم هذا الوضع المأزوم لأهل السنّة والجماعة، شعور عام بالإحباط ، تغذيه عوامل عدّة، منها على سبيل المثال لا الحصر، غياب القيادة السياسية المتمثلة بالرئيس سعد الحريري، افتقاد الرؤية الواضحة والخطة الاستراتيجية اللازمة لجماعة بحجم الطائفة الأكبر في لبنان، فضلاً عن فقدان المرجعية العربية التي كان دورها دائماً صد الهجمات والمخططات الخارجية التي تستهدف الطائفة ودورها الوطني، المحلي والعربي.
لقد أدت تداعيات الربيع العربي إلى غياب دور مصر، العمود الأساس في النظام العربي، وإلى إنشغال السعودية بأزمات الوضع العربي، وهي المرجعية الأولى للأمة، فضلاً عن انهيار دور دمشق بعدما غادرت المحور الذهبي الذي جمعها مع الرياض والقاهرة، وعقدت التحالف الاستراتيجي مع طهران، التي تؤكد حضورها في معظم الملفات العربية والإقليمية الأخرى!
لعل أخطر ما في هذا الواقع المستجد، أن يُترك الشارع السنّي ليُكمل استدارته نحو التشدّد ومغادرة مشروع الدولة، إزاء إصرار البعض على تعطيل الدولة، والهيمنة على مؤسساتها، والتفرّد بالقرارات الأمنية والمصيرية… عندها يصبح لبنان أمام تحديات مفصلية ومصيرية، لا تنفع معها ساعة الندامة!  

السابق
كأنه الفخ: حزب الله أم فتح أخرى؟
التالي
2 > 1 مرسي بعد حسني