انتصار المزرعة على الدولة

سقط النظام؟

ليست المرة الأولى. سبق أن ذهب النظام إلى نهاياته مراراً، ولكنه عاد، بجدارة طائفية مضافة ومعززة ومدعومة. السنوات التي كان النظام «معافى» نسبياً، نادرة جداً. كان يعيش على الحافة، قريباً من الهلاك. أول من اكتشف الداء، كان عبد الحميد كرامي، ثاني رئيس حكومة للبنان الاستقلال. كانت الشهور القليلة التي أمضاها في السلطة، كفيلة بدفعه إلى نفض يديه من السلطة والنظام والدولة. قالها لرئيس الجمهورية بشارة الخوري: «هذه مزرعة لا دولة»، وعرض عليه أن يحل الدولة، ويعيد بناءها من جديد. لم يحدث ذلك. انتصرت المزرعة على الدولة.

أعاد اكتشاف عطب الدولة الرئيس «المميز» فؤاد شهاب. رأى بأم الشواهد، كيف انتصر «أكلة الجبنة» على الدولة، وكيف أن الرياح الإقليمية قادرة على زعزعة «الخيمة الصلبة» التي نصبت له ولعبد الناصر على الحدود، تأكيداً لسيادة الدولة.

الدولة المزرعة، الدولة المتمادية في الاتكال على النظام، الدولة المرهونة للطوائف وأكلة الجبنة (اقتصاداً ومالاً وتنمية) لا تصمد أمام أي ريح إقليمية، لذلك عزف عن المسؤولية، ثم، نعى الدولة والكيان والنظام، قبل وفاته بأيام.

سقط النظام مرة أخرى؟

قد لا تكون الأخيرة. سبق أن عاشت الدولة وسط ركامها، منقسمة على نفسها في العام 1958، متنازعة بعد الخامس من حزيران، منزوعة السيادة «باتفاق القاهرة»، مدمرة في حرب لا شبيه لها في عنفها وتفتيتها وتدميرها. وكان لا بد من عناية دولية ورعاية إقليمية ووصاية سورية حتى يعود هيكل الدولة وتفرعات النظام، إلى وضعية الخضوع لأوامر السلم الأهلي وضوابطه، بالتوافق والتقاسم والتراضي، ليظل الانتظام العام قائماً، متيحاً لقوى المال أن تنشط في اقتصاد الريع والمضاربات، وموكلا لقوى الطوائف أداء أدوار سياسية، لا تحيد عن منطق المزرعة.

سقط النظام، قالت «المبادرة الوطنية». وصفت الحال والمآل بدقة. خلصت إلى ضرورة تأسيس عقد جديد بين اللبنانيين، وهيئة دستورية مستقلة وممثلة لقوى اجتماعية غير طائفية، بهدف وضع دستور على قاعدة المواطنة والحرية والديموقراطية. ولقد كان إعلان هذه المبادرة، بحضور لبناني مختلف ومتنوع وغير طائفي، ما جعل اللقاء منصة تتيح للبنانيين أن يروا إلى غدهم بمنظار مختلف، بهدف تأسيس دولة مختلفة، واعتماد نظام مختلف. «مبادرة» يعوَّل عليها، بما ترفد اللبنانيين ببرامج وخطط ووسائل وطرق نضال، قادرة على إعطاء الفئات ذات المصلحة بقيام الدولة، فرصة العمل والتأثير والتقرير.. هذه منصة مختلفة عما سبق، لأن الماضي شهد سقوط الدولة، ثم أعيد البناء، بحجارة الركام.

التجارب الماضية، درَّبت اللبنانيين على الانتظار. بالتأكيد «غودو» سيجيء مندفعاً بقوى دولية وإقليمية، لإعطاء «الرسن»، لصاحبه. وعذراً على التشابه المقصود.

كان النظام يسقط، ويعاد بناؤه بمن قام بهدمه. العام 1958، نموذج «الوحدة الوطنية» بين «المنقسمين وطنياً». نظام القائمقاميتين، وفتنة الستين، أعطت فرصة لبناء «كيان»، بصيغة هجينة ومؤقتة وطائفية. حرب «المئة عام» اللبنانية، التي استمرت خمسة عشر عاماً، أعيد بناؤها بركامها. أمراء الحرب والتشريد والتهجير وإفراغ الدولة من مقوماتها كافة، هم أنفسهم فوِّضوا بتركيب قدمين للدولة العتيدة. دولة الطائف (ولو أن التسمية ظالمة لاتفاق الطائف) مشت على جبهتها وزحفت على بطنها. لقد كانت الدولة في «الميثاق» الأول، حاضنة وراعية للطوائف، اجتماعياً وتربوياً وسياسياً، بعد الطائف صارت الطوائف راعية محلية للدولة، وقابضة عليها، بتفويض سوري وإيقاع مخابراتي وقبول عربي وغض نظر دولي.

الجديد في سقوط النظام وبلوغ الدولة نهايتها، أن ذلك قد حدث خارج سياق حرب داخلية. سقطت الدولة في ظل سلم أهلي هش. لا حرب في لبنان اليوم. هناك فلتان أزقة، وفلتان إعلام كأزقة مقبوض عليها من شبيحة الكلام، وفلتان سياسي ترتكبه القوى السياسية الطائفية كافة.

الموت الرحيم، هذه المرة، يسبق الموت العنيف.

المبادرة جاءت في زمن صعب. الزمن الإقليمي خطفته حركات «الربيع» التي أفضت إلى نزاع متعدد، وصراع متجدد وحروب ليس في المنظور أي أمل بأن تتوقف… يحدث كل ذلك، وقوى لبنان منخرطة بفعالية ميدانية، في جبهات القتال.

هنا بيت القصيد.

ثبت من خلال ما تعرض له لبنان من أزمات ومآسٍ، أنه كيان فائض على محيطه. شعبه غير مكتف بحدوده. تأسس على نقيضين، ازدادا تناقضاً. خلافات لبنان الداخلية، بين أهله وطوائفه وأكلة الجبنة فيه وحتى «عصاباته» المافيوزية لم تسقط الدولة ولم تقفل النظام. تعايشت الدولة مع حماتها ورعاتها وآكلي خيراتها. تعايشت مع الفساد والزعبرة على قاعدة «الجبنة للجميع»، ولو لم تكن بالتساوي، أتقن اللبنانيون فن الزعبرة الديموقراطية والنفاق الانتخابي والتلصلص الإداري (الإدارة حزب السياسيين والطائفيين)، وتفوق في إعطاء صورة لا بأس بها عن «جمهورية موز» ناجحة.

الانهيار كان يحدث بسبب الأزمات الخارجية، التي كانت تُستدعى من خارج الحدود، لتصبح عدة الصراع الداخلي. ولبنان راهناً، وصل إلى نهايته، كدولة ونظام مؤسسات، بسبب ما يعتوره داخلياً، وبسبب أكبر، يعود إلى انتصاف لبنان بين عاصفتين، واحدة بشراع إسلامي سني، وأخرى بشراع إسلامي شيعي.

المبادرة في بدايتها.

قريباً، تبدأ ورشة الجهد المبذول، لترجمة التغيير عبر قوى مؤمنة قد تصبح قادرة على التغيير.

بانتظار ذلك، سيبقى لبنان مقفلاً، لأنه مفتوح على حروب المنطقة، وهي حروب بحجم كوني، وبعقائد ومصالح ورؤى بابلية، لا تحصيها لغات.

ان الدم يقترب من لبنان.

ليت الحبر وحده كافٍ.

السابق
مصر.. انتقدوا نظامكم لا السوريين
التالي
درس ايراني لعرب أميركا