اقتصاد عيتا الشعب: نحو الوراء سر..

بين محلات السمانة ومحلات بيع الثياب ومحطات البنزين وحتى الصيدليات، يكثر المشترون وتقل السيولة بيد أصحاب المصالح. ذلك لأن الدين يترأس دفاتر البيع والشراء. هكذا يشكو الوضع الإقتصادي في عيتا الشعب الحدودية (بنت جبيل) من تدهور كبير، والأسباب متعددة، أقلها قلة النقود مقابل الرغبة في رفع مستوى المعيشة..
لتردي الوضع الإقتصادي في عيتا الشعب(8000 نسمة) أسباب يقرؤها الجميع بلغة واحدة. فالقرية كبيرة من حيث عدد سكانها، و تعدد مصالحها، واستقطابها للكثير من التجار وأهالي المنطقة المجاورة وخاصة القرى النائية. هكذا تكثر فيها المصالح على أنواعها من محلات سوبر ماركت ودكاكين ومحطات بنزين ومحلات ثياب، ومدارس خاصة ومحلات تزيين نسائي وسنترالات وملاحم ومطاعم، عدا عن الحرف المتعددة كالنجارة والحدادة، ومحلات بيع الألمنيوم بحيث بات المواطن في القرى الحدودية قادر على شراء كل ما يلزم، دون الذهاب الى أي مدينة مجاورة.

حقيقة صعبة
انتعش الوضع الإقتصادي في عيتا الشعب إثر عدوان تموز 2006. إذ بعد عودة النازحين الى القرية شبه المدمرة، مُنحت العائلات مبالغ مالية لترميم وضعها من حزب الله، ثم أغرقت قطر التي تكفلت بإعادة إعمار القرية الناس بالأموال. هكذا أعيد بناء أكثر من 90 بالمئة من البيوت على الطراز الحديث، وحصل أهل القرية على مبالغ مالية لم تكن زراعة التبغ تؤمنها لهم. فترجمت هذه الأموال المستوى الجديد بشراء السيارات والهواتف و الإعتياد على الكماليات، لتترك الناس على حقيقة صعبة بعد سنوات "ما في مصاري، والناس تعودت على الترف"، كما يقول المواطن حسين صالح. ثم يضيف" حتى الفقراء بعد الحرب حصلوا على مبالغ كبيرة لم يحلموا بها سابقا، فصار الهاتف والسيارة من ضروريات المنزل. أما الآن، وبعد نفاذ تلك الأموال، عاد كل الى عمله. عاد المزارع الى العمل ليل نهار في حقله ليتقاضى 4-5 مليون ليرة في السنة، مقابل مصاريفه التي تتخطى الـ10 مليون".

مستويين
ولإرتفاع تكاليف الحياة جزء مهم من هذه المعاناة. يقول المواطن م.ص "يعمل معظم أهل القرية في زراعة التبغ، وهذا منتوج غير ثابت وغير مضمون، إذ بالكاد يؤمن مصاريف الحقل والمياه والزراعة في بعض الأحيان. ولا يزرع الناس مساحات كبيرة من الأراضي، يزرعون بقدر استطاعتهم فقط. ماذا ستفعل ملايين يسيرة في سنة كاملة؟". ثم يضيف "لقد ارتفعت نفقات العائلات بسبب ارتفاع مستوى المعيشة وغلاء الأسعار. كما أنّ كل العائلات الآن ترسل أبناءها الى الجامعات وتحرص على تعليمهم، ما يكبد الأهل الكثير من العناء، فيضطرون الى الإستدانة من المحلات". تعلق زوجته على موضوع الإستدانة قائلة" اعتاد الناس في القرية على الإستدانة، يستدينون لأتفه الأمور أحيانا." هكذا انقسم الناس بحسب مستوياتهم الى "فقراء وأغنياء، لا وجود لطبقة متوسطة في القرية، إلا ما ندر من موظفين في القطاع العام." كما يقول م.ص.

معاناة
لأصحاب المصالح في القرية معاناة حقيقة، تصل الى مرحلة إعلان حالة الطوارئ، وأحيانا الإفلاس.
غرقت عيتا منذ شهر في الظلام عند انقطاع التيار الكهربائي، لأن صاحب مولدات الكهراب في القرية أعلن عدم قدرته على الإستمرار في شراء المازوت. والسبب؟ "تراكم الديون التي ضربت أرقاما خيالية". كما يقول نايف طحيني، صاحب مولدات الكهراباء مسبقا، وصاحب محطة بنزين كبيرة في القرية." أوزّع كهرباء على البيوت، وعندما يذهب الجابي لتحصيل الإشتراك الشهري يرده معظم الأهالي، مؤجلين الدفع الى الشهر التالي، حتى تراكمت الديون عليهم، وصاروا يقصرون عن الدفع. وفي المقابل عليّ مصاريف كبيرة بت غير قادر على تأمينها من رسوم الإشتراك المدفوعة."
يرجع طحيني السبب الى الوضع الإقتصادي الصعب في القرية، دون أن يستثني عدم قدرة البعض على الموازنة بين المدخول والمصروف" أعلم أن الكثير من الناس لا يستطيعون الدفع فعلا، ولأني ابن القرية لا أستطيع الضغط عليهم مراعاة لظروفهم. لكنّ الكثير أيضا لا يوازنون بين واردهم وصادرهم، فيقعون في العجز."
أنذر طحيني أكثر من مرة بأنه لم يعد قادرا على شراء المازوت، لكن من دون فائدة، ما دفع به الى بيع المولدات دون تحصيل ديونه التي تخطت الأربعن مليون. أما بخصوص محطة البنزين، "فحدث ولا حرج حول الديون التي تتراكم سنة بعد سنة. يقول الناس أنهم سيسددون عند بيع موسم التبغ، وعندما ينتهي الموسم، نراهم غير قادرين على تسديد حتى أبسط المبالغ، الأمر الذي دفع بي الآن الى إيقاف التديين، وإلا اضطررت الى إعلان إفلاسي. على صاحب المصلحة أن يمتلك رأس مال كبير ليستطيع الإستمرار في العمل، وإلا عليه أن يوقف التديين".

ديون كبيرة
ولأصحاب محلات السمانة كلام لا يخالف كلام محطات البنزين. فعلى طاولة كل بائع دفتر كبير للديون تتفاقم فيه الأرقام حتى تتجاوز الملايين. يقول محمد نصار، صاحب إحدى أكبر التعاونيات في القرية، أن أمواله عند الناس تتخطى المئتي مليون، وأنه لولا الديون"لوسعت تجارتي في المنطقة ولطورنا العمل، لكن الديون هي عائق كبير". ولا تختلف تفاصيل الإستدانة كثيرا، "فالناس يستدينون من عام الى عام، ولا يستطيعون التسديد عند موسم التبغ، إذ لا يبقى معهم من الملايين اليسيرة ما يسددون به ديونهم، علما بأن معظم العائلات تسحب أموالا من البنك على رخصة التبغ، فعندما يباع الموسم يأخذ البنك المبلغ كاملا". ويتكلم عن أسباب تردي الوضع قائلا" عندما جاءت قطر ووزعت الأموال الطائلة، تغيرت حالة الناس فجأة، وباتوا يعولون على الكماليات حتى صارت جزءاً أساسياً من حياتهم. وبنفاذ الأموال عاد معظمهم الى وضعه قبل الحرب، دون أن يستطيع التأقلم على ضبط مصاريفه. أفاجأ أحيانا بعائلات تستدين الكماليات وليس فقط الخبز." ثم يعلق قائلا" في القرية لا تستطيع منع الدين، لأنّك تعرف العائلات، ولا تستطيع خسارة علاقاتك معهم." وعن قدرته على الإستمارية يقول نصار" أعوّل على زبائني خارج القرية الذين يقصدونني ويدفعون نقدا، وعلى العائلات التي لا تستدين، وإلا كنت قد أعلنت إفلاسي. لكنّ هذا الوضع يمنعني من تطوير تجارتي أو تحسينها. نعاني من وضع إقتصادي يتدهور ولا يتقدم".
ولا يقتصر الدين على الشراء فقط، إذ يتخطاه الى الإستيدان من المدارس الخاصة. ف "ل. خ." صاحبة إحدى المدارس الخاصة في القرية، تقول أنها واجهت مأساة حقيقة وصلت الى درجة إعلان حالة الطوارئ، و التفكير الجدي في الإغلاق بسبب تراكم الديون عليها نتيجة تخلف الأهل عن دفع أقساط تلاميذهم. "أنا أستغرب كيف يسجل البعض في مدرسة خاصة إن كان لا يستطيع دفع القسط، أفهم حرص الأهل على تعليم أولادهم، لكن للمدارس أيضا مسؤولياتها التي تتخطى دفع رواتب معلميها." ثم تقول" في العام الماضي وقعنا في عجز كبير، وتأخرنا عن دفع رواتب الموظفين، ولأننا لا نحب أن نوقع التلميذ في سوء تصرف والديه، لم نطرد أحدا منهم، فكانت النتيجة أن تراكمت علينا الديون. لم نحصل حتى الآن على مستحقاتنا من الأهل التي تتجاوز الخمسين مليون كي نستطيع دفع مستحقات دور النشر وغيرها". والحل؟ "اتبعنا سياسية صارمة هذا العام، ما جعل الناس يقفون في الصف عند آخر الشهر كي يدفعوا قسط الولد المعرض للطرد. وانسحب الكثير ممن لا يستطيعون الدفع". ثم تقول"ينعكس هذا الوضع على أهالي المنطقة، فمدرستنا تؤمن وظائف لأكثر من 12 فردا، وعدم استمرارية أي مصلحة يؤدي الى فقدان مدخول الكثيرين".

مصالح جديدة
ورغم كل المعاناة التي يعانيها أصحاب المصالح إلا أن الأمل والرغبة في تحسين المستوى الإقتصادي يدفع الكثيرين والكثيرات الى فتح مصالح جديدة والمغامرة برأس مالهم كي يزيدوا مدخولهم الشهري. هكذا تكثر محلات بيع الثياب، وخاصة الولادية والنسائية. ففي حين يعاني الزوج من صعوبة تأمين قوته، تبحث المرأة عن زبائن لمحل صغير للثياب تفتحه بما تيسر لها من بضاعة ورأس مال تؤمن لها ولو اليسير من المدخول. "أنا وزوجي متعاقدان الى السلك العام، لذا نحتاج الى مدخول شهري. فكرنا في فتح محل صغير للثياب كي يؤمن لنا مدخولا. كانت مغامرة جريئة لكنها ناجحة، لأننا لا نتعاطى بالدين. زبائننا معروفون وخاصة من خارج القرية"، كما تقول حنان عصمان صاحبة أحد محلات بيع الثياب.
ومزارع الدجاج.. تجارة رابحة..
كثرت مزارع الدجاج في القرية في الآونة الأخيرة. فبعض العائلات وجدت من تربية الدواجن مجالا للعيش بعيدا عن الخوص في الديون والتعاطي مع الأفراد. هكذا أخذ البعض قروضا من البنك لإفتتاح المصالح والترويج لها. "وجدنا من تربية الدواجن هذه تجارة مربحة، خاصة في ظل الوضع السياسي المتردي في سوريا واتجاه الطلب نحو مزارعنا. نجلب الصيصان من الشركة التي تشرف على صحة الفراريج، ونبيعها إياها عندما تصبح جاهزة للذبح". كما يقول محمود صالح الذي افتتح مع اخوته مزرعة للدواجن على طرف القرية.
  

السابق
مقاتلو المعارضة يعلنون انهم لن يأذوا أفراد قوات حفظ السلام
التالي
القاضي صوان يطلب الاعدام لمحمود الحايك في محاولة اغتيال حرب