وطن الهواجس الكثيرة

عندما يستمع المرء إلى تصريحات بعض المسؤولين في الدولة اللبنانية يأخذه العجب وتنتابه الحيرة مما تتضمنه تلك المقابلات المرئية التي تصل إلى أسماع غالبية المواطنين، الذين يقبلون على متابعتها ولو مكرهين، علَّهم يلمسون بارقة أمل أو ما يوحي لهم أن الأفضل آتٍ، وأنهم ولو بعد حين سوف يرون أن بعضاً من الوعود المغدقة عليهم تأخذ طريقها إلى التنفيذ. لكن ينفي حصول ما يحلمون تضارب الآراء والتشابك الحاصل في المفاهيم الدستورية والقانونية وبعض التفسيرات التي لا تستند إلى أصول قانونية معترف أو معمول بها عند كلٍّ منهم، كأنّ لكلّ مسؤول دستوراً وقانوناً وفذلكة قانون ومرجعيات خاصة به. ويتعدى ذلك التنوّع غير البنّاء تضارب المفاهيم السيادية وتعريف الأمن والأمان. ومردّ هذا التخبّط العشوائي أن لكل مرجعية، سواء كانت في مركز المسؤولية أو خارجها، فلسفة مستقاة من «الحرص» عل طائفته التي تقف وراء «ثقافته الوطنية»، ضارباً عرض البحر (لأن البحر أوسع مدى من الحائط) بكل ثوابت المجتمع القائم على تعددية الثقافات والأعراق، مستبدلاً بها انغلاقاً طائفياً ومذهبياً تغذيه دول غربية صهيونية وأعرابية تحاول التأمرك والتصهين بكل ما تملكه من إمكانات، علّها تجد لنفسها مقعداً في قطار الانهزام الذي يلفظ أنفاسه بعدما بدأت مركباته تخرج على خط سيرها واحدة بعد الأخرى وتهيم في صحراء السراب الذي يتراءى له في شرق أوسط غربي مهزوم أمام مشرقية تدافع عن حقائق وجودها وتصنع الانتصارات ولو باهظة الأثمان.
في غياب مرجعية القرار الوطني، وفي ظل هذا «الاجتهاد اليومي»، يستغرب المراقب كيف تدير هذه الدولة شؤون البلاد، ويستغرب أكثر من ذلك «الصمود الصامت» للسواد الأعظم وطول الأناة على استباحة الحريات والتطاول على المؤسسات الضامنة لسلامة المواطنين جميعاً، حتى بلغ الأمر بأحدهم حدّ الإفتاء بشأن مؤسسة الجيش و«الدعوة إلى الجهاد» ضدّها ولم ينكفئ ولو موقتاً إلاّ بعدما فقد التأييد لـ«فتواه» من مرجعيات ساحقة من طائفته التي تبزّه وطنية وسلامة رؤيا ووضوح بصيرة.
أمّا في مسيرة التشريع لقانون الانتخابات، وقد أصبح لكل طائفة مشروعها في ظل غياب أي طرح يوحّد اللبنانيين ولا يفرّق بينهم، يتبارى أمراء الطوائف في تزيين مشاريعهم الطائفية وتجميلها مطالبين باعتمادها في الانتخابات المقبلة ليضمن كلٌّ منهم حصّة أكبر من حصّة خصمه يستدرج بها نزالاً وتقاتلاً على اقتسام «قالب الجبنة الذي تؤمنه تركيبة مجلس نيابي طوائفي لا يأخذ في الاعتبار أن البلاد على شفا الانهيار الأمني والاقتصادي ولا يلتفت إلى هموم المواطنين الحياتية وصعوبة تأمين لقمة العيش الكريم أمام هجمة المال المسموم الذي تشتري به أكثر من جهة خبيثة ضمائر الضعفاء لتستخدمها معاول تهديم لبنية وطنية هي أساساً في حاجة إلى ترميم وتدعيم بثقافة وطنية مقاومة تشمل كل المواطنين ولا تستثني أحداً ولا تعتمد الطائفية والمذهبية مرجعية لها.
هذه الحال المتردّية، على كل الصعد، دفعت القلقين والحريصين على المصير إلى إطلاق صرخة التحذير، لافتين إلى تفاقم الأوضاع، ومطالبين بوضع حدٍ لتراكم المشاريع الانتخابية التي لا تضمن التمثيل الصحيح للفئات الاجتماعية كافة، مطالبين بتطبيق قانون الدائرة الواحدة على أساس النسبية التي تلتزم المعيار الوطني الموحّد للبلاد بعيداً عن المحاصصة الطائفية، وإذا كان ثمة لوم على عدم إقرار مثل هذا المشروع الشامل فإنما يقع على عاتق بعض «ممثلي الشعب» في المجلس النيابي الحالي، ما دفع غبطة الكاردينال الراعي إلى القول بالأمس: «عيب على هذا المجلس النيابي ألاّ يقر قانون انتخاب جديد يوحِّد ولا يفرِّق، وإن بعض النوّاب لا يستحقون أن يكونوا نواباً عن الأمة إذا لم يفعلوا»…
نأمل في أن يستدرك المعنيون الأمر وأن يثبتوا فعلاً أنهم على قدر المسؤولية والواجب في وطن تتقاذفه هواجس كثيرة وقلق كبير!

السابق
اليمن: إضراب عام واحتكاك بين الشرطة ومحتجين
التالي
شفاء طفل ولد مصاباً بالإيدز