14 آذار: عرسال مقابل الضاحية!

عرسال ليست مونت كارلو. وهي لن تكون كذلك حتماً. أما ما يجمع
بين الاثنين فهو «المقامرة». في أفخم منتجع سياحي في إمارة موناكو مقامرة من النوع الترفيهي، حيث توجد الكازينوهات الشهيرة. أما في عرسال، فالمقامرة سياسية، يلعبها فريق الرابع عشر من آذار بإتقان

هي عرسال مجدداً. المنطقة التي قفزت من الخريطة الجغرافية اللبنانية، وانضمت بإرادة بعض الذين استولوا على قرارها إلى الأحداث السورية. انخرطت في «الثورة» حتى صارت فيها «تنسيقية». اختلط فيها المحلي بالسوري، وباتت بقعة توتر، سالت فيها الدماء يوم الجمعة الماضي.
في أيار 2012، وجد فريق 14 آذار في البقعة المنسيّة نقطة عبور إلى قلب الأحداث السورية. بموكب سيّار من بيروت إلى الحدود، هرول وفد ضم النواب عاصم عراجي وجمال الجراح وأنطوان سعد وطوني أبو خاطر وأمين وهبي وزياد القادري وشانت جنجنيان والنائب السابق فارس سعد وإدي أبي اللمع، إلى البلدة لتفقّد النازحين السوريين. وبموقف صريح وواضح طالب هؤلاء بـ«حماية المنطقة من انتهاكات الجيش السوري النظامي»، من دون التعليق آنذاك على الانتهاك الذي مارسه رئيس البلدية علي الحجيري عندما أفتى لسكان البلدة بأن يحملوا الأسلحة في سياراتهم وبأن يمنعوا أياً كان من توقيفهم، على قاعدة «يا قاتل يا مقتول». يتبرأ النواب اليوم من موقف الحجيري عبر التذكير بمطلبهم «نشر الجيش اللبناني على الحدود بمؤازرة قوات دولية»، حتّى «لا يتمكّن أي طرف من أن يتمرجل أو يقوم بعراضة مسلّحة». حتّى كتلة نواب زحلة التي شارك ثلاثة من نوابها في الزيارة، أدانت في بيان لها أمس «الاعتداء والتعرض لدورية الجيش اللبناني، والطريقة التي عومل بها عناصر الدورية من قبل بعض أبناء البلدة»!
يضيع المدافعون عن «السيادة» التي تعدّ المؤسسة العسكرية جزءاً لا يتجزأ من حمايتها، بين الروايات الرسمية والأهلية والإعلامية، وإن شددوا على «محاسبة كل العناصر الذين اعتدوا على الجيش»، لا يتوانون عن ربط الحادثة بـ«محاولة تأديب» المنطقة وساكنيها، الذين يُشكلون خزاناً لتيار «المستقبل».
قوى 14 آذار التي أصابها «ضعف إيمان» بمبادئها، نتيجة الانقسام حول قانون الانتخابات، توحّدت مجدداً ضد الجيش، وإن اختلف سقف الخطاب التحريضي ضد المؤسسة بين تيار وآخر، أو حزب وآخر، وحتّى بين النواب داخل الكتلة الواحدة. لا يرى بعض تيار المستقبل حرجاً في الدفاع عمّا قام به عناصر مسلّحون بحق عناصر الجيش اللبناني. يُمكن ببساطة الكيل بمكيالين. الهجوم على الضاحية الجنوبية «الخارجة عن سلطة الدولة» يسبق الهجوم على الجيش. فالضاحية «ولّدت جرد عرسال، والقفز فوق القانون عند حزب الله، هو ما دفع أهالي عرسال إلى حماية أنفسهم بغنى عن القانون». سقطت عند هؤلاء مقولة أن يبسط الجيش هيبته لفرض الأمن والأمان، بحجة أنه «لا يجوز له فرض عضلاته على مناطق معينة وأخرى لا». غلّف المعتدلون الزرق موقفهم الرافض لأحداث عرسال بالمطالبة بـ«فتح تحقيق عسكري وكشف الخطأ الذي وقع»، محمّلين «الحكومة، وطبعاً حزب الله، مسؤولية تفشي السلاح». فيما يبدو عرابو التطرف في التيار، كالنائبين خالد الضاهر ومعين المرعبي أقرب إلى المطالبة بـ«ضرب الجيش من حديد بسواعد عرسالية»، لاعتبارات مذهبية، مع الترويج الدائم لموضوع «استهداف الطائفة»، تبدو صورة عرسال في الجناح المسيحي لفريق الرابع عشر من آذار، أكثر تعقيداً. تراعي الشخصيات السياسية الخصوصية المسيحية التي لطالما نظرت إلى المؤسسة العسكرية نظرة «تقديس». حتماً، لا يُمكن هؤلاء المغالاة في إدانة الجيش اللبناني. بين الأمانة العامة لـ14 آذار والقوات اللبنانية والكتائب، اتفاق ضمني على «بروز وجود سنّي مسلَّح في الشمال يتحدى الوجود العسكري لحزب الله في بيروت والبقاع والجنوب». يستطيع هؤلاء الحديث بطريقة فضفاضة عن «حق الجيش اللبناني في الدخول إلى أي منطقة لبنانية يريدها»، لكنهم لا يجرؤون على اتخاذ موقف حازم برفض التعرض للجيش. وإن كان عرض القوة قد بات أمراً بديهياً عند «المستقبل»، فقد قذفت أحداث عرسال مسيحيي الرابع عشر من آذار إلى وضع حرج جداً. كان هذا الجناح المعارض يتمنى أن «تنتهي العملية الأمنية التي نفّذتها مخابرات الجيش في عرسال عند حدود اعتقال المطلوب خالد الحميّد المعروف بكونه أحد الناشطين على خط دعم الثورة السورية». لا يأتي ذلك حرصاً على الأرواح العسكرية التي ذهبت ضحية الكمين، بل تجنباً للوصول إلى مواجهة بين القوى السياسية المعارضة.
من البديهي، أن «لا يكون في لبنان جيش سوى الجيش اللبناني». ولا بد لهذه المؤسسة أن «تتخذ التدابير اللازمة إن توافرت لديها معلومات عن مطلوبين في أي منطقة لبنانية». لكن من غير الطبيعي أن «تودي هذه التدابير بحياة عسكريين وضباط». بهذا الحرص الخجول، تتحدث مصادر قواتية وكتائبية عن الجيش. لكن هذا الحرص لا يُمكن أن يغطّي «انتقاداتهم». ولمراعاة الجمهور المستقبلي، يجنح هؤلاء إلى الحديث عن أن العملية الأمنية التي نُفذت، كان لا بد لها من أن تكون مُحكمة ومنسّقة مع عدد من الأجهزة الأمنية الأخرى. تضع هذه الأصوات «عناصر الجيش في دائرة المتهمين». برأيهم «ثمّة خطأ كبير حصل في تنفيذ عملية الدهم». ورغم اعترافهم بحق الجيش في «الدخول إلى أي منطقة من الشمال إلى الجنوب»، كان على الجيش أن «يعرف أنه ذاهب إلى مربّع أمني، بات فيه ما يكفي من عناصر للقاعدة وجبهة النصرة، لإدراك خطورة المنطقة». وبحذر واضح، ينتقل الحديث للإشارة إلى «خطأ عملاني، لم يكن الأول من نوعه»، للمطالبة «بإعادة النظر بالقرارات التي تُتخذ، وفتح تحقيق شامل لمعرفة من يعطي الأوامر في مديرية مخابرات الجيش، ويدفع عناصرها إلى مواجهة غير مضمونة النتائج».
في الأمانة العامة لـ14 آذار، خطوط حمراء يجب ألّا تسقط. يؤكد أعضاؤها أن «التعرض للمؤسسة مرفوض»، لكن ذلك لا يعني أنها «فوق المساءلة في بعض المواضيع». يتذرّع المتكلمون بـ«الانتماءات السياسية للعسكريين». يطرحون التساؤلات عن «عدم مراعاة حساسية المنطقة، وجهل العناصر العسكرية بجغرافيتها». «يسكّجون» على الروايات المتعددة، لشنّ هجوم على حزب الله، على اعتبار أن «الهجوم العسكري، يخدم الحزب»، الذي «يستخدم الحادثة للمزايدة على الآخرين في دفاعه عن الجيش». يتناسون التنكيل بجثث الضباط، وينتقلون بخط عسكري من عرسال إلى الضاحية الجنوبية لفتح ملفها من جديد. فـ«الفلتان الضاحيوي، هو من فتح الباب للفلتان الحدودي»، «والخطاب المتطرف، ولّد تطرفاً مقابلاً عند طائفة بأكملها تشعر بأنها مهددة»، و«السلاح يجرّ السلاح».

السابق
تحديات الكنيست التاسعة عشر
التالي
وهاب: لنتكلم بعقل مع الاوروبيين