بالدستور العجلة لن تدور!


ظاهر الحال في مصر غير باطنه. في العلن، يقول أطراف الصراع أموراً يعلمون في قرارة نفوسهم انها ليست الحقيقة. يُظهرون الكثير من الثقة بما يتخذونه من قرارات ومواقف، لكن نفوسهم تضجّ بعدم اليقين.
أطراف الصراع كثر. لكن أربعة منهم هم الأقوى والأكثر فعالية. إنهم الاخوان المسلمون، والقضاء، والجيش، والمعارضة بمختلف قواها، ولاسيما جبهة الإنقاذ الوطني. هم في الواقع أكثر من قوى، إنهم »سلطات» لكون ثلاثة منهم سلطات رسمية لها وجود مؤثر في الشارع، والطرف الرابع »سلطة» شعبية لها من القوة والنفوذ في الميادين والساحات ما يمكّنها من التأثير في السلطات الأخرى.
الاخوان المسلمون، بشخص الرئيس محمد مرسي، باتوا أصحاب السلطة التنفيذية بما تملك من قدرات إدارية ومالية وأمنية. القضاء، بقيادة نادي القضاة، يُسيّر غالبية القضاة في أنحاء الجمهورية ولا يصغي، في أحيانٍ كثيرة، لوزير العدل أو للنيابة العامة بل يتمرد غالباً على إرادة السلطـة التنفيذية. الجيش، بشخص وزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسي، يتصرف وكأنه سلطة مستقلة عن سائر السلطات، وتسعى الى التوفيق بينها. المعارضة الشعبية تتخذ من القرارات والمواقف المؤثرة ما يحمل السلطة التنفيذية على التراجع عن بعضها أو تعديل بعضها الآخر، والقضاء، على اتخاذ قرارات بإبطال بعض قرارات السلطة التنفيذية أو الإمتناع عن تنفيذ بعضها الآخر، كالإشراف على عملية الإستفتاء على مسودة الدستور.
في صراع السلطات المحتدم، تبدو السلطة التنفيذيـة »الأخوانية» مصممة بعناد على تمرير الدستور لشرعنة وضعها القانوني وتدابيرها السياسية، فترفع لهذه الغاية شعار » بالدستور العجلة تدور».
السلطة الشعبية (المعارضة)، مدعومةً بصورة غير مباشرة بالسلطة القضائية (نادي القضاة) تكافح بكل الوسائل الديمقراطية المتاحة لتعطيل جهود السلطة »الاخوانية» وتأمين أكثرية وازنة بين المقترعين بـ »لا» للدستور.
السلطة العسكرية حاولت بشخص وزير الدفاع الفريق السيسي العودة الى المسرح السياسي بدعوة القوى المتصارعة الى حوار »لمّ الشمل» تحت سقفها بغية التوصل الى تسوية وطنية للصراع المحتدم. السلطة الشعبية وافقت على المشاركة في الحوار بقياديين من الصف الثاني. السلطة الاخوانية توجست خيفة من المرامي البعيدة المدى للسلطة العسكرية فرفضت دعوتها للحوار بل ضغطت عليها لإلغائه.
الفريق السيسي امتثل لرغبة مرسي، عاد الى الإنتظار وراء الستار. في تقديره ان تطورات الصراع ستدفع بالسلطة العسكرية مرة أخرى الى الواجهة. فالمعارضة المتصاعدة لحكم الاخوان من جهة وتصميم المعارضة بشتى تلاوينها، من جهة أخرى، على خوض معركة الدستور وكسبها كفيلان بإنتاج كمّاً من الأحداث والتداعيات والإضطراباتيتيح للقوات المسلحة ان تعود الى ملعب السياسة من باب توفير الأمن والإستقرار.
المعارضة تعتقد انها ستكسب معركة إسقاط الدستور بالرغم مما اعتور موقفها الرافض اصلاً للإستفتاء من اهتزاز بسبب موقفيّ قائد حزب المؤتمر عمرو موسى وقائد حزب الوفد السيد بدوي، المؤيدين للمشاركـة في الإستفتاء بـ »لا»، وذلك لأسباب عدة أبرزها ثلاثة:
الاول، ان التباين الحاصل في جبهة المعارضة قد عوّضه التباين الحاصل في جبهة الإسلاميين. ذلك ان قائد حزب »مصر القوية» عبد المنعم أبو الفتوح أوصى أنصاره بالتصويت بـ »لا» في الإستفتاء. موقف ابو الفتوح يعزز رأي قادة المعارضة، وأكد ان »ملايين المصريين الذين احتلوا ميدان التحرير والشوارع المؤدية الى قصر الاتحادية الرئاسي والساحات العامة في معظم المدن المصرية سيصوتون بـ »لا» مدويّة في الإستفتاء او، أقلّه، الإمتناع عن التصويت ما يفضي الى خفض عدد المقترعين عموماً والموافقين على الدستور خصوصاً بنسبة عالية».
الثاني، ان السلطة الاخوانية لن تستطيع الوفاء بالضمانات التي اشترطتها المعارضة للمشاركة في الإستفتاء بـِ »لا» الأمر الذي سيعرّضه للإبطال. ابرز اسباب الإبطال إجراء الإستفتاء على مرحلتين لكونه مخالفاً للقانون الذي يوجب، عند إجرائه على أكثر من مرحلة، ان يتمّ ذلك في يومين متتالين وليس بفارق اسبوعكامل بين المرحلتين الاولى والثانية لئلا يفتح الباب أمام التأثير في إرادة الناخبين وممارسة العنف وعمليات التزوير، إضافة الى عدم توفير العدد الكافي من القضاة للإشراف على عملية التصويت في اللجان الإنتخابية التي يربو عددها على خمسين ألف لجنة في شتى انحاء البلاد. مع العلم ان الإستفتاء لن يحظى بمراقبة كافية من هيئات معاينة شفافية عملية التصويت وخصوصاً بعد إعلان الرئيس الاميركي السابق جيمي كارتر عزوف معهده عن مراقبة الإستفتاء.
الثالث، ان المعارضة التي تحظى بالغالبية في صفوف الشعب المصري لن ترضى بالدستور اياً كانت نتيجة الإستفتاء، وانها وجمهورها سيبقيان في الشارع وقد يلجآن الى العصيان المدني الأمر الذي سيؤدي، في حال مواجهتهما بالعنف، الى اندلاع اضطرابات واسعة قد تفضي الى حرب أهلية.
كل هذه التحديات والمخاطر تدفع السلطات الثلاث، القضائية والعسكرية والشعبية، الى التزام موقف المعارضة السافرة والمتصاعدة من السلطة الاخوانية لحملها على تعديل موقفها او، ربما، على التنحي.
الى اين من هنا؟
يبدو ان لا صحة البتة لشعار »بالدستور العجلة تدور»، ذلك ان جميع المؤشرات ترشّح مصر الى مرحلة من الإضطراب السياسي والأمني المقلق. فالمشكلة، في واقعها، ليست دستورية بل سياسية بامتياز ولن تجد حلاً او تسوية لها إلاّ في مناخ سياسي مغاير تماماً للبيئة السياسية التي تعدّها السلطة الاخوانية لنفسها وللبلاد. السبب؟ الإسلاميون عموماً والاخوان المسلمون خصوصاً يؤمنون بأن فرصتهم للتمكّن من السلطة قد أتت اخيراً بعد نحو 80 عاماً من الكفاح والإنتظار، وانه يقتضي اغتنامها واستغلالها بلا إبطاء. ذلك يكون بالتمسك بالسلطة وترسيخ إمساكهم بها وشرعنة العملية كلها بدستور ناظم ومسوّغ للتدابير السياسية التي يعتزمون اتخاذها في المستقبل.
المعارضة بكل وجوهها وتلاوينها تدرك غاية الإسلاميين السلطوية وترفضها بل تعتزم تعبئة أوسع الجهود وأفعلها لمقاومة إقامـة الاخوان في السلطة، بما في ذلك إسقاط الإستفتاء وبالتالي الدستور بغية وقف شرعنة الحضور الاخواني في الدولة.
اين »ثورة 25 يناير» ومبادئها من كل ما حدث ويحدث؟
يقتضي التنبيه الى ان المعارضة الشعبية هي المعنية جدّياً بـ«ثورة 25 يناير». فالسلطات الثلاث الاخرى غير معنية بها بل ربما تشعر بأن تفعيلها سيكون على حسابها. من هنا تتضح ضرورتان ملحّتان:
الاولى، وعي المعارضة الشعبية هذه الحقيقة والتصرف على نحوٍ يضمن عدم إفادة فلول نظام مبارك المتربصة بها، سيّما وان بعضها نائم في كواليس السلطات الثلاث الاخرى ومهيّء للإستيقاظ والإنقضاض في الوقت المناسب.
الثانية، ضرورة ان يعي الإسلاميون جميعاً، وخصوصاً الاخوان المسلمون، انهم لا يستطيعون التفرد بحكم البلاد. مصر أكبر منهم وتستعصي على كلِ استفراد واستئثار. من هنا تنبع الحاجة الاستراتيجية الى اجتراح تسوية تاريخية بين الإسلاميين الشوريين والعروبيين الديمقراطيين بما يكفل بناء الدولة المدنية الديمقراطية في مصر واستعادة دورها القومي والاقليمي.
من يتولى شرف هندسة اللقاء التاريخي بين جناحي الأمة؟.

السابق
إنفجار بين بلدتي طيرحرفا وعلما الشعب بالجنوب
التالي
انفجار حافلة تقل زوارا لبنانيين في سامراء