شراسة ووداعة على أوراق ثقافتين سياسيتين

لا يتفجّر الرصاص والشراسة فقط على أوراق الثقافة السياسية السورية المعاصرة ولا تنبت الورود والوداعة فقط على أوراق الثقافة المصرية المعاصرة. ففي كلا الإرثين علامات متضاربة ديموقراطية واستبدادية… لكنّ ثمة "بُنيةً سلميّةً" تتعدّى الشكل في الثورة المصرية بل في الثورات المصرية منذ العام 1919 لا مثيل لها في الصراعات السورية واللبنانية والعراقية بل في مصارعها!

لاحظتُ مؤخرا وفي العديد من التعليقات التي يكتبها معارضون سوريون في الصحف أو على "تويتر" و"الفايسبوك" أن معظم هذه التعليقات في معرض المقارنة (الضرورية) بين الثورتين السورية و المصرية لا تأتي نهائيا على ذكرِ فارقٍ جوهريٍّ في مآل الثورتين وهو سلمية الثورة المصرية وعنفية الثورة السورية. طبعا يتحمّل النظام الاستبدادي وحده مسؤولية العنف الذي جرّ إليه- بدون أدنى شك – كل الوضع السوري في المرحلة الأولى من الثورة بسبب رفضه القاطع لقبول التعامل مع مظاهر وتظاهرات الاحتجاج السلمي التي كان يقود شرارتها على "الإنترنت" مئاتٌ من الناشطين الشباب المتنوّرين في المدن السورية وضواحيها (ماذا بقي منهم الآن بين قمع "شبيحة" النظام و"رُعاع" الهوامش الثورية؟… لا نعرف). وطبعا تتحمّل دولٌ غربية عظمى ودولٌ من المنطقة مسؤولية ما سُمّي عسكرة الثورة في المرحلة الثانية منها أي منذ عامٍ ونيّف، مما فاقم لــدى النظام إرادة الرد العنيف بل التدميري، الأمر الذي قد يجعلنا لا نجد الشيء الكثير الباقي في كل سوريا بعد سقوط النظام وبالأخص اعتبارا من معركة حلب حيث فشلت سيطرة المعارضة على المدينة إلا أنها حقّقت بشكل مباشر "المنطقة الآمنة" في ريفها على جزء كبير من الحدود الشمالية مع تركيا كبديل على مايبدو عن هدف التدخّل العسكري الدولي الذي لم يحظَ بقرار مجلس الأمن ولا يمكن لتركيا بالتالي أن تقوم به مباشرة.
خَلَتْ تعليقات العديد من المعلّقين السوريين في معرض المقارنة مع مصر من أية إشارة للفارق الجوهري المتمثّل بالثقافة السلمية العميقة التي تحملها النخب المصرية في أيّ مــوقـعٍ كانت، مقابل ما ظهر من ثقافـة العنف التي لن نبحث عنها لدى نخب النظام السوري لأنها واضحة وإنما لدى نخب المعارضة الإسلامية والعلمانية التي لم تبدِ أية حساسية سياسية مضادة – في العمق- للمنحى التدميري العبثي الذي بلغته الثورة. لكن الإنصاف يتطلّب هنا تسجيلَ اعتراضِ شخصياتٍ سوريةٍ معارِضةٍ ودون طائل على منحى عسكرة الثورة ولكنها ووجِهتْ بإدانات هي جزءٌ من ثقافة العنف أو ثقافة القبول بالعنف.
نعرف أن جزءاً مهماً من هذا الحديث تجاوزه الوضع السوري إلى غير رجعة. فلسنا فقط في "العسكرة" بل نحن الآن في مراحل الانتقال إلى "الإبادة" وبات أيُّ كلامٍ سلميٍّ غيرَ واقعيٍّ حتى أمدٍ طويل ستحسمه نتائج المواجهات الضارية على الأرض والتي صارت على الجهتين في إيدي دول وهيئات أركان وزارات الدفاع.
هناك في تاريخ الكيانين – الدولتين، مصر وسوريا ما يجعل للثقافة السلمية في الأولى والعنفية في الثانية جذورها التي تتجاوز مجرّد مواقف أو ميول النخب لأن رسوخ تقاليد الدولة المصرية – أو ما يسمّيه المثقفون المصريون الدولة النهرية العريقة – يجعل ثقافة الصراع السياسي أكثر سلمية بطبيعتها وتقاليدها، بينما في بلاد الشام الدولُ حديثة النشأة ومشروعيّتُها لدى مجتمعاتها غير راسخة. فهذه المجتمعات نفسها غير راسخة وحديثة التكوين كمتحدات مع بعضها البعض، لا سيما العراق وسوريا ولبنان على اختلاف ظروفها الداخلية.
في عالم اليوم نجحت قوانين العلاقات الدولية وآليّاتها مرارا، خصوصا بعد انتهاء الحرب الباردة، في منع التقسيم أو التفتّت في هذه الدولة أو تلك من أن يحصل أو أن يذهب إلى مداه الأبعد بل حتى حافظت على الوحدة القانونية والسياسية لكيانٍ كالكيان اللبناني أو منعت حتى اللحظة انفصال شمال العراق… لكن كل المخاطر لا تزال مفتوحة في منطقة "الهلال الخصيب" وشبه الجزيرة العربية لا سيما بعدما ثَبُتَ أن "اتفاقية سايكس – بيكو" أو البنود التي طبِّقت منها (كإلحاق الموصل بالعراق بدل سوريا لأسباب نفطية بريطانية صرف) قد أدّت إلى خلق دولتين سيثبت أنهما دولتان بِسْماركيّتان في طموحاتهما الجغرافية بل قدراتهما في العالم العربي هما سوريا والعراق قبل أن يحكمهما حزب البعث عندما كانت بورجوازّية المدن هي الحاكمة ولكن مع ثقافة ليبرالية عموما. أما بعد أن حكمهما هذا الحزب فقد تفاقمت بنظر الغرب نسبة المتاعب البسماركية – أي التطلع "الإمبراطوري" خارج الحدود – وأثارت الصداع والمتاعب الكبيرة. لقد تولّت الطبقة الوسطى البعثية العسكرية والمدنية الريفية حكمَهما فأنتجت ديكتاتوريّتين استثنائيّتين.
لا يتفجّر الرصاص والشراسة فقط على أوراق الثقافة السياسية السورية المعاصرة ولا تنبت الورود والوداعة فقط على أوراق الثقافة المصرية المعاصرة. ففي كلا الإرثين علامات متضاربة ديموقراطية واستبدادية… لكنّ ثمة "بُنيةً سلميّةً" تتعدّى الشكل في الثورة المصرية بل في الثورات المصرية منذ العام 1919 لا مثيل لها في الصراعات السورية واللبنانية والعراقية بل في مصارعها! وحتى البسماركية الناصرية من سوريا إلى اليمن لم تكن وليدة عدم اكتفاءٍ جغرافي سياسي بقدر ما كانت نتيجة طموحات استراتيجية تاريخية للدولة المصرية لها سوابقها الحديثة في عهد محمد علي. كان صانعو البسماركية البعثية راغبين في تغيير دولة "سايكس – بيكو" السورية مثلما كان يريد أسلافهم المتنوّرون البورجوازيون ولكن بوسائل عنفية.
ودون أن أتّخذ أيَّ موقع "وعظي" على هذا المستوى من التخاطب مع أصدقائنا من المعارضين السوريين – لأننا في بيروت وسط البركان لا على حافته وهذه بلادنا التي تحترق لا أقل – ما أتمنّاه هو أن تحظى السجالات الثورية بحساسية سلمية أعلى كلما اقتربت أكثر تحديات موعد تغيير النظام.
حساسية سلمية أعلى ضد عنف النظام العاتي وعنف المصالح الدولية الخبيث.

السابق
سيناريوهات التدخل العسكري في سوريا لمنع استخدام السلاح الكيماوي
التالي
المالح لـ”الشرق الأوسط”: الخط الأحمر الذي يخشى منه الغرب أن يصل السلاح الكيماوي إلى “حزب الله”