لا استقرار مع شرعيات القوة

لا استقرار في لبنان ما دامت شرعية السلطة تأتي دائماً بالقوة، ومن خارج القواعد الديموقراطية الفعلية.
منذ توقف العنف المادي المباشر بتسوية «الطائف» لم يسلك لبنان الطريق المؤدي إلى تعزيز الشرعية الدستورية والممارسة السياسية الحرة، ولم يوجد لها آليات. كان افتتاح ذاك العهد بتعيين النواب، ثم بإسقاط الحكومة المدبّر، وإجراء انتخابات على قانون أدى إلى مقاطعة فئة واسعة من الشعب اللبناني، ثم بتفويض السلطة التنفيذية لطرف من خارج الحياة السياسية. منذ اللحظة الأولى لجمهورية «الطائف» أو «الجمهورية الثانية» كانت هناك انتهاكات متمادية للمعايير الديموقراطية ولإمكان قيام حياة سياسية طبيعية.
كانت سلطة الوصاية هي المرجعية الأعلى للاجتماع السياسي. وتحت تلك السلطة حصلت إدارة لنزاع قوى الأمر الواقع وتنافسها وجرى دعم قدرة الجماعات وتطويرها على احتكار التمثيل السياسي وإلغاء الحد الأدنى لاختراق هذه السلطة من قبل أي جهة مستقلة.

خرجت سلطة الوصاية بقرار دولي وبنزاع إقليمي، وبقيت الحياة السياسية أسيرة هذا التناوب على محاولة ملء الفراغ من دون أي سعي لتعديل قواعد اللعبة. سقطت الحكومة في الشارع، وتحت الضغط الدولي، ونشأت سلطة على غلبة جديدة استدعت مناهضة شرسة لها، ثم لم يعد هناك استقرار سياسي أو أمني، حيث أصبح «الشارع» أو قوة الجماعات المادية هي المحرك الأساس لتشكيل الحكومات وأدوار المؤسسات. لم نعرف بعد كيف نعيد الشرعية الديموقراطية للممارسة السياسية من جميع الأطراف بلا استثناء.
كل التذمرات والاحتجاجات والشكاوى من أي طرف صدرت تعبّر عن مأزق صنعته هذه القوى عندما رفضت إيجاد إطار سليم للتنافس السياسي. كانت ولا تزال حريصة على إغلاق النظام على ما هو خارج عن لعبة القوة، قوة السلاح، قوة المال، قوة الخارج، قوة التوازن الطائفي.

تظهر المشكلة مضاعفة حين يحصل القتل نتيجة الصراع ويطاول الناس العاديين ويصيب بالأذى ممتلكاتهم وأمنهم ويشيع أجواء القلق والاضطراب. لكن القتل هو جزء من عدة الصراع لإلغاء الآخر، أو لفرض الشروط عليه وإخضاعه. يحدث القتل صدمة محدودة وعابرة ولا يستفز المجتمع كله لمقاومته ولوضع حد له. السبب الواضح لهذا الاستسلام أو هذا الاسترخاء يكمن في شعور الناس بأن قوى الأمر الواقع تتناوب على فكرة الإلغاء وتستقوي بكل أشكال العنف وبالخارج على منع تغيير قواعد اللعبة.
حين كان معظم الطبقة السياسية متربعاً في حضن الوصاية السورية لم يلتفت إلى الشكوى المسيحية من قانون الانتخاب، ومن نفي الزعماء أو سجنهم واضطهاد جمهورهم، ولا هو طبعاً فكّر بالمهمّشين والمنبوذين من سائر فئات المجتمع. وحين صار فريق 8 آذار مستقوياً بالفوضى الإقليمية التي تبدو خارج المحاسبة والمساءلة، لم يلتفت أيضاً لأولئك الذين يتعرضون لمحاولة الإخضاع لأنهم يراهنون على تغيير المعادلة في صالحهم.

ولماذا يكون الحوار، ولماذا تكون المعالجات السياسية ما دام الهدف هو إعادة إنتاج غلبة وإعادة «تكوين سلطة» كما يقال بوضوح، لا إعادة بناء نظام سياسي يستبعد العنف من آليات عمله؟ فإذا كان قانون الانتخاب وهو المظهر الأساسي لشرعية السلطة في لبنان قد صار علناً أداة حاسمة لاحتكار السلطة لا لتأكيد شرعيتها.
لن نكون عدميين فلا نرى الوجه الآخر من المسألة حيث للدفاع الوطني عن حدود لبنان قيمة أساسية، ولمطلب السيادة كذلك في وجه دول مجاورة عدوة أو شقيقة. لكن أحداً لا يستطيع أن يجد حلولاً لبلد منقسم على نفسه سلطوياً وطائفياً حتى تجاه كيانه ودولته ومعنى الوطنية والسيادة.

هاتان «السلبيتان» اللبنانيتان لم تنتجا بعد «لبنان واحدا لا لبنانين» على ما في الشعار المعهود بعد أحداث 1958 وتسوية «لا غالب ولا مغلوب». «لبنانان» اليوم أكثر من أي يوم في تاريخ هذا البلد وضوحاً وتجسيداً. لا يمكن لمن هم خارجهما من الجمهور المهمّش المقموع أن يرى فيهما مشروع وطن أو قضية. والأدهى من كل ذلك أن الانقسام السياسي الوطني ليس مجرد تيارات سياسية عابرة للدولة كما كان من قبل بين اللبننة والعروبة. لبنان المنقسم هو كيانات خارج الدولة، و«دول» تكاد تكون أقوى من الدولة، لها شرعية العنف المنظم تمارسه على رعاياها وعلى مرأى ومسمع من الدولة المركزية اليتيمة المستجدية للتوافق وللمصالحة وللحوار.

يريد فريق حكومة محايدة، أو سلطة محايدة، فقط ليمنع تجذّر سلطة الفريق الآخر وإمساكه بمفاصل القرار الشرعي. لكنه قطعاً لا يبحث عن حل نهائي لشرعية السلطة المفتوحة على شراكة اللبنانيين جميعاً وليس فقط عن هذه الثنائية السياسية الطائفية. حين تصبح الصورة نافرة واضحة على هذا النحو ينمو شعور واسع بأن البلاد رهينة هذه المغالبة التي لا تنتهي ما دامت قد تغذت وتتغذى من تبعية القوى السياسية للخارج غير المسؤول عن طموحات الشعب وتطلعاته.
إنها شرعيات القوة التي لا تعرف أهمية لمعنى الاستقرار.

السابق
استدارة فاشلة توقيتاً ومضموناً
التالي
بيار نمّور.. تروتسكي المعارضة اللبنانية