جنبلاط الجديد: أنا الزعيم

كان ذلك في العام 2005. سمع «الاشتراكيون» وليد جنبلاط يتحدث، للمرة الاولى، عن نيّته «تحرير» رئاسة الحزب قريبا من «قبضة المختارة». كثر لم يقبضوا جدّ «مزحة» البيك. بيت «المعلّم» لا يستوعب هذا القدر من الديموقراطية الطافحة. اصلا ليس في سلوك جنبلاط الحزبي او السياسي ما يوحي بحمله «جينات» التنازل بسهولة عن «التاريخ» والمكاسب. آنذاك لم يكن احد يسمع بـ«ربيع» الثورات العربية.
لم تتأخر الترجمة كثيرا. في الجمعية العمومية الاخيرة لـ «الحزب الاشتراكي» في تشرين الاول من العام الماضي، حين كان عمر الازمة السورية قد بلغ نحو ثمانية اشهر، وضع جنبلاط حزبه على سكة التغيير الملموس. اعلان «شفهي» بالتنحّي عن رئاسة الحزب في الانتخابات المقبلة، وقطع الطريق على نجله تيمور بالجلوس مكانه لان «الوراثة منشيلها من ذهننا». بالمبدأ، سقط منطق التوريث أو التزكية من القاموس الجنبلاطي.
يومذاك لم يمسّ «البيك» بـ«شعرة» من زعامة المختارة، مؤكدا «انها شأن خاص يطرح في مكان آخر». «البيك» المفتون بـ «تسونامي» التغيير في المنطقة وصولا الى ابواب دمشق، دعّم قراره آنذاك، باطلاق رزمة اصلاحات داخلية، وجدت ترجمتها العملية في الاجتماع الذي عقدته «جمعية المرشدين» في الحزب التقدمي يوم الاحد الماضي في المختارة وتمّ خلاله التصديق على دستور الحزب الجديد.
حتى الآن، ما يزال جنبلاط يزاوج بسلاسة بين خيارين. الذهاب حتى النهاية، ومن دون حفظ خط الرجعة مع النظام السوري، في معاداة «تاريخه التصالحي» مع «بيت الاسد». والالتزام، من جهة اخرى، بضخّ جرعات من الديموقراطية في «عروق» حزبه. مساران متكاملان يشبهان كثيرا «النسخة» الاخيرة من الزعيم الدرزي. زهدٌ في المنصب الحزبي. «قتال» ضار على الجبهة الانتخابية بهدف ابقاء قصر المختارة لاعبا اساسيا على طاولة رسم الاحجام والتوازنات، ورهان «حياة او موت» مع «العملاق السوري» في لحظة التهاوي الكبير!.
في اجتماع «جمعية المرشدين» قبل ايام قليلة، لم يحضر رئيسها وليد جنبلاط برغم انعقاد الاجتماع في بيته. أيضا غاب نجله تيمور الذي انضمّ الى عضوية «المرشدين» في العام الماضي. الاول برر الغياب «لظروف خاصة»، والثاني لتواجده خارج لبنان. بدا «البيك» معنيا بارسال المزيد من الاشارات باتجاه «تحرير» الحزب من سطوة زعيمه. اما تيمور، فمسألةٌ اخرى. حتى الآن، لا يبدي نجل جنبلاط حماسة ملموسة لا للانخراط في «ورشة التغيير» الحزبي، ولا في أن ينخرط في برنامج تحضيري يقوده تلقائيا الى تولّي «شؤون المختارة» بعد انكفاء والده.
انتخابات العام 2013 ستكون بقيادة «وليد بيك». هذا امرٌ محسوم. لكن من بعدها «لكل حادث حديث». يكون تيمور او لا يكون. الصورة غير واضحة حتى الان. في اثناء تواجده في لبنان، يكرّس تيمور يوم السبت الى جانب والده للقاء الوفود الشعبية في المختارة، فيما يشارك بخجل في النشاطات الحزبية.
يجاهر الشاب في جلساته مع المحازبين والاصدقاء بعدم اعجابه باللعبة السياسية الطائفية القائمة حاليا. يبدو متأثرا الى حد كبير بالنموذج الديموقراطي الغربي. يتحدث باستمرار عن نظرة سياسية متطوّرة يؤمن بها ويراها ضرورية في العمل السياسي.
يطرح الحراك الداخلي في «الحزب التقدمي الاشتراكي» سلسلة تساؤلات. هل سيخوض جنبلاط، بعد تسليمه بطاقة رئاسة الحزب الى الخلف، الاستحقاق النيابي؟ هل سنكون امام «نائب زعيم» من دون حزب؟ وهل سيلفح التغيير المتوقع التركيبة السياسية لـ «الحرس القديم» الذي يرافق «البيك» منذ ثلاثين عاما؟ وهل سيتقبّل اعضاء «الحرس» الخسارة تماما كما تقبّلها من قبلهم المقدم شريف فياض؟
خرج المحازبون بعد انعقاد «جمعية المرشدين» حاملين الدستور الجديد بيدهم. «الربيع الاشتراكي» بدأ «يزهّر فعلا». هذه هو انطباع بعض الشبان. يتحدثون عن انتصار «يكاد يوازي زعامة الجبل نفسها».
في العام الماضي، عملت لجنة مصغّرة، مؤلفة من حقوقيين ومسؤولين حزبيين، على انجاز التعديلات المقترحة على «الدستور الحزبي» بناء على التوجيهات الجنبلاطية. بعدها، احيلت الى مجلس القيادة (تمّ انتخابه قبل عام لفترة انتقالية وطعّم يومها بالعديد من الوجوه الشبابية) الذي ناقشها، ثم انتقلت الى «جمعية المرشدين» الأحد الماضي. حضر الجمعية 130 عضوا من اصل 150 يشكّلون عدد اعضائها، وتمّ التصويت عليها بأكثرية ثلثيّ الحضور.
وزّعت اقتراحات التعديل قبل نحو شهر ونصف على اعضاء «الجمعية». وعلى مدى اربع ساعات حصلت نقاشات مستفيضة تمحورت بشكل اساسي حول المسألة الاكثر حساسية. صلاحيات رئيس الحزب. هكذا في النسخة الاشتراكية الجديدة اقرّ مبدأ الانتخاب من القاعدة الى رأس الهرم، واعتماد سن الـ 18 للانتساب، وسَحب الدستور صلاحية تعيين مسؤولي المناطق (وكلاء الداخلية) ومسؤولي القطاعات (المفوّضين) من رئيس الحزب لتجيّر الى امين السرّ العام، على ان يصادق رئيس الحزب على هذا التعيين.
وبالرغم من اقرار الدستور في «جمعية المرشدين»، فانه ما يزال عرضة لبعض «الرتوش» الذي «لا يؤثر ـ بحسب اوساط حزبية ـ على المضمون». ومن الاقتراحات التي لم تحسم بعدّ صلاحية رئيس الحزب في اعادة قرارات التعيين التي تصدر عن امين السر العام، خلال فترة معينة، في حال عدم موافقته على الاسماء.
أيضا اعيد النظر باقتراح تقصير ولاية مجلس القيادة الى ثلاث سنوات، وهو الأمر الذي اتفق عليه في الجمعية العمومية الاخيرة، فابقي على ولاية الاربع سنوات المنصوص عليها في الدستور. وبحسب التعديلات الجديدة اصبح امين السر العام ينتخب من قبل الجمعية العمومية بعد ان كان ينتخب من مجلس القيادة.
يذكر انه في الدستور القديم كان وزراء ونواب «الحزب التقدمي الاشتراكي» يعتبرون اعضاء حكميين في مجلس القيادة بعد تولّيهم مناصبهم. وفق الدستور الجديد، يحقّ للجمعية العمومية ان تنزع الثقة عنهم بالاكثرية المطلقة، بناء على اقتراح رئيس الحزب!
هكذا تبدو جرعات «التغيير» بارزة، لكن «طيف» «البيك» لا يزال حاضرا بقوة. هي «الديموقراطية» على طريقة المختارة.
يبرر امين السر العام في الحزب ظافر ناصر حضور جنبلاط القوي من منطلق أن «الرجل استثنائي»، ويرى ان «ما حصل يشكّل محطة مفصلية في تاريخ الحزب لاعتبارات عدة منها الخروج من النظام الرئاسي الى نظام القيادة الجماعية، وتوزيع صلاحيات الرئاسة التنفيذية للمرة الأولى على هيكليات حزبية اخرى، والاعتبار الاهم هو اصرار رئيس الحزب على قراره الحاسم باتجاه تطوير العمل الحزبي والديموقراطي داخله عبر اوسع مشاركة من القاعدة والكوادر والقيادات في القرار الحزبي».
وفيما كان اتفق في الجمعية العمومية في العام الماضي على اعتبار مهمّة مجلس القيادة بمثابة مرحلة انتقالية تنتهي بعد عام واحد حيث يصار الى انتخاب مجلس قيادة جديد في تشرين الاول من العام الحالي، فان الجمعية العمومية التي ستشهد انتخاب مجلس القيادة، والذي يليه انتخاب رئيس الحزب، لن يكون بالامكان انعقادها قبل شهر آذار من العام المقبل، بسبب الالتزام ببرنامج المهل الزمنية لانعقاد الجمعيات العمومية في المناطق، التي ستسبق اجتماع محازبي «الاشتراكي» لاختيار اعضاء مجلس القيادة ورئيس حزبهم الجديد.
ويبدو ان شهر آذار قد لا يوفّر «البيئة الحاضنة» المناسِبة لاحداث «الانقلاب الديموقراطي» الكبير في «حزب وليد جنبلاط». فحِمى الانتخابات النيابية ستكون قد اجتاحت عقول الجميع، على مسافة نحو شهرين من موعدها «المفترض». لذلك، فالترتيبات الحزبية لزعيم المختارة قد توضع على الرفّ، في انتظار تمرير الاستحقاق النيابي. هذا يعني بالتأكيد، وخلافا لما كان مقرّرا سابقا، لن يتخلى «البيك» هذا العام عن مقعد الرئاسة، وسيخوض «الملحمة» الانتخابية وهو لا يزال رئيسا للحزب… ومن اقدر و«اشطر» من وليد جنبلاط على «التحايل» على التواريخ والالتزامات والخيارات؟

السابق
سليمان: ادعو شعبي إلى تجنب الفتنة
التالي
الحريري: النظام السوري لديه ادوات كثيرة في لبنان وهو لن يتوقف أمام أي شيء لضمان استمراريته