طائفيات في النزاع الإقليمي

يتأكد يوماً بعد آخر ترابط المشكلات وتلازمها في المشرق العربي. وعلى ما يظهر جلياً فإن مشروع حياد لبنان يتصل برغبات سياسية لا مرتكزات لها في الواقع. اللبنانيون ربطوا مصائرهم بأزمة الشرق الأوسط لأنهم فشلوا في بناء الدولة المستقلة، ولأنهم لم يتفقوا حتى الآن على طبيعة هذه الدولة لتنازع الإرادات الطائفية.

لم تكن الطوائف بذاتها العقبة الرئيسة لقيام الدولة في لبنان وسوريا والعراق. من الثابت أن العراق عاش عقوداً كمجتمع سياسي لا تسيطر عليه النزاعات الطائفية. أما سوريا فهي الدولة التي واجهت التقسيم الطائفي الفرنسي المباشر وطمح شعبها وقواها السياسية لاستعادة لبنان إلى كيانها. ولبنان الموسوم طائفياً منذ منتصف القرن التاسع عشر وانقسامه التاريخي المسيحي الإسلامي حول الكيان الذي أنشئ في العام 1920 عاش عقوداً يطوّر وطنيته اللبنانية ويقرّب بين نوازع الطوائف قبل انفجار الحرب اللبنانية التي طغى عليها العنصر الخارجي.

لم تكن الجماعات الطائفية هي المشكلة بل الاستثمار السياسي لثقافة هذه الجماعات ومصادرة تمثيلها لأسباب عديدة من قوى وتيارات اعتاشت على التزام المشاريع الخارجية. عندما كانت في البلاد «مارونية سياسية» كان المصطلح ينصرف إلى تيارات من جميع الطوائف التي والت القيادة المارونية سياسياً، فكانت هناك تيارات سنية وشيعية ودرزية تدين بالمارونية السياسية. وقد ينسحب هذا الوصف على العراق وسوريا حيث نشأت «صدامية» و«أسدية» سياسية.

لم تكن المارونية السياسية حكم الموارنة بل «حكم موارنة» وكذلك الصدّامية والأسدية في انتمائهما الطائفي. ولا السنية أو الشيعية في لبنان بعد الطائف في موقعهما السلطوي تغطيان الواقع الطائفي ولو استفاد من نفوذهما جمهور من طائفتهما. تلك هي ملابسات الطائفية السياسية حين تدّعي نخب الطوائف وقياداتها أنها تمثل كل مصالح الجماعة رغم الاستحالة الفعلية لذلك. وليس عبثاً بعد اتفاق الطائف على اقتسام السلطة أن تراجع المشروع الطائفي لمصلحة المشروع الديني. فلم تعد الأفكار الطائفية قادرة على تحشيد الجمهور فذهبت الاستثمارات إلى البُعد الديني والمذهبي. فما الذي يجيّش سنة لبنان أو شيعته أو دروزه في ظل نظام المحاصصة إلا الانخراط في مشروع إقليمي يتوهم الفرقاء استمداد المزيد من السلطة إذا نجح رهانهم أو خيارهم وهذه السلطة هي التعبير عن انتصار عصبيتهم وثقافتهم.

ولكي نفهم الظروف العربية بموضوعية وواقعية علينا أن ندرك كيف تحولت التفاعلات الإقليمية إلى عنصر أساسي في الصراع هذه المرة أكثر بكثير من «الخارج الدولي». ونكاد اليوم نعيش في ظل الحروب العربية العربية بعد الانكفاء الظاهري للأميركي والإسرائيلي، والحروب الإسلامية الإسلامية، والحروب الطائفية والإثنية.

اقتحمت إيران الساحة العربية، ثم تركيا مؤخراً، فبدّلتا جدول أعمال المنطقة ووجهة الصراع فيها. خرجت مصر من المعادلات العربية فدخلت دول الخليج لاعباً أساسياً، وقامت ثنائية خليجية عربية إيرانية على مدى عقود تتنازع أو تتقاطع على إدارة ملفات العراق وفلسطين ولبنان وأخيراً سوريا. لم يعد الغرب هو الخارج الوحيد الذي يتلاعب بمصائر المنطقة، بل طغت نزاعات القوى الإقليمية وحروبها حتى جاء الغرب والشرق بمفهومه القديم والحديث (روسيا والصين) يقتحم هذا النزاع ويشارك فيه.

ولا يمكن أن نعفي إيران وسوريا من المسؤولية عما آلت إليه أوضاع العراق ولبنان وفلسطين، ولا بشكل خاص السعودية وسوريا عن مصير لبنان خلال ثلاثة عقود من الوصاية المشتركة.
وإذا كنا اليوم ندرك قطعاً أن الغرب حاضر في كل ما يجري على الساحتين العربية والإسلامية، فهو يدير أزمات إقليمية ودولية لمصلحته لكنه ليس الطرف الوحيد الذي يصنعها.

لم ينكر أحد يوماً خاصة بعد الاحتلال الأميركي للعراق أن هجمة غربية على المنطقة قد بدأت وأن لها ملاحق تجلّت في لبنان منذ القرار الدولي 1559 والحرب الإسرائيلية في تموز 2006. لكن مواجهة هذه الهجمة نجحت تكتيكياً وموضعياً وفشلت على المستوى الاستراتيجي. ففي أي حساب بسيط خسر العرب قوة العراق وحضور قضية فلسطين وخسروا قوة سوريا وما زالت وحدة لبنان ومناعته لا تتناسبان أبداً مع انتصار حرب تموز.

ومن المفترض أن لا يقع صدع كبير وعميق كما هو حاصل الآن في الجبهة التي ترفض الاستباحة الغربية للمنطقة ولا سيما التدخل العسكري المباشر وتدويل المشكلات. لكن ما يقال عن ممانعة لهذه الوجهة من التدخل الغربي أوغلت في تفكيك عناصرها في صراع المصالح الإقليمية والمذهبية والسلطوية، والأخطر: في التناقض الصارخ مع حقوق الشعوب في المشاركة والحرية.

لهذه الأسباب تبدو نتائج المواجهة محسومة وهي تجويف الوضع العربي الرسمي والشعبي واستنزاف طاقاته وتفجير تناقضات لا يمكن السيطرة عليها. ويدفع العرب كشعوب بالذات ثمن هذه الممارسات السياسية الشخصانية السلطوية. فما زال العرب غير مؤهلين لممارسة السياسة المدنية الديموقراطية التي تقودهم إلى بناء الدولة المستقلة. هم الآن في قلب هذا المخاض وهذه الولادة العسيرة.
  

السابق
الجيش السوري الحر يهدد الضاحية.. واسرائيل تعد حزب الله بالرد
التالي
تركيا والبحث عن المخارج!