ثمن الوطنية

لا غرابة في أن يتذكر البعض انطلاقة المقاومة الوطنية اللبنانية، في 16 أيلول 1982. لا غرابة أن تبقى هذه الذكرى صفحة جميلة في تاريخ هذا البلد القاسي المأخوذ بانتحاره الطائفي المذهبي. وقد كانت، منذ البداية، مثل نظرة حب أو همسة أفرحت من سمعها ووعدته، وانتظرها كثيرون ممن وعدوا أنفسهم بها. لا غرابة أن يتذكر البعض تلك الرحلة الريفية التي بتنا لا ندري ما إذا كانت اختُلست من التاريخ ولياليه الطويلة أم أن التاريخ ولياليه قد اختلساها ووأداها.

الذكرى الوطنية اليوم ليست ضد الاحتلال فحسب. كأنها في هذا الإطار موقف مبدئي وقد زال الاحتلال، مثلما وعدت تلك المقاومة التي أُسست ولم تكمل «المشوار». الذكرى اليوم عنوان لحلم مفقود، عنوان لرفض الظروف التي قاتلت الحلم وقتلته، أو طوت صفحته، عنوان اعتزاز بالتأسيس ضد أن تحل النهاية مكان البداية وتحتلها وتمحوها.
كأنها ذكرى نوستالجية. لكنها باتت كذلك لأنها مقاومة لم يتسنَّ لها الاستمرار حتى تحقيق هدفها، تحريراً وتغييراً، ولأنها وطنية بينما الطائفية احتلت البلد والتاريخ وصادرت الدور، سواء أكان معه أم ضدّه. فالطائفية، ها هنا، ليست الوريث وحسب وإنما الخصم أيضاً.

وهذا مما يزيد نوستالجية الذكرى الوطنية، فالذين يتذكرون يصعب عليهم أن يتماهوا مع ما آلت إليه المقاومة ومن آلت إليهم، إلا من ناحية مقاومة الاحتلال وردعه عن الاعتداء. وفي الوقت نفسه يصعب عليهم أن يتماهوا مع شعار نزع سلاح المقاومة ومن يطالبون به. هكذا، يتحول الذين يتذكرون المقاومة الوطنية لاسياسيين وهامشيين، وسط مناخ طائفي، ووسط قبول بعض أحزاب تلك المقاومة الوطنية باللعبة الطائفية منذ نهاية الحرب الأهلية، ودخول البعض الآخر أزمات وانهيارات متتالية بالجملة والمفرق.

حمل المقاومون الوطنيون، بعد 16 أيلول 1982، السلاح وناضلوا وسُجنوا وشُردوا، ليحرروا الأرض من الاحتلال، لكن أيضاً ليغيروا النظام الطائفي الذي تواطأ مع الاحتلال بل استدعاه ليجدد نفسه بالاحتلال والانتخابات الرئاسية، فإذا بهم يجدون «الحليف» الإقليمي والداخلي يجدد النظام ويغذي الطائفية والمذهبية. وكانت الظروف أقوى منهم. كانت المهمة تحتاج إلى أكثر من حمل البندقية، والاستعداد للاستشهاد والعذاب. فالجبهات كثيرة، ولعل أوضحها مواجهة الاحتلال. عبث الحرب كان قاتلاً. تقدم أحزاب بلون مذهبي واحد في مقاومة الاحتلال كان يحوّل المقاومين الوطنيين هدفاً ميليشيوياً في الداخل وديكوراً طائفياً في صورة المقاومة. وثمن ذلك كان غالياً أيضاً. المعركة كانت تعرّي هؤلاء وسط رياح عاتية. وجاءهم اليتم الأممي، مع انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية، ليزيد من وحدتهم وعزلتهم. تيتموا أمميّاً وتُرجم ذلك إقليمياً ومحلياً. وكان اللاعب الجديد جاهزاً وقادراً على المقاومة والاستمرار والقيام بالمهمة بشكل أفضل.

هكذا، بعد ثلاثين عاماً، بل قبل عشرة أعوام بل عشرين عاماً، كان المقاومون الوطنيون قد باتوا خارج اللعبة والمشهد، وباتت المقاومة الوطنيّة لحظة في تاريخ. باتوا مؤسسين فحسب، وباتت هي منسيّة، أو شبه منسيّة. ولهم أن يُقر بذلك، للأمانة التاريخية ولتصويب معنى المقاومة التي باتت في زمن السلم المذهبي بحاجة إلى إجماع وطني، أو تقاوم الخصوم بسرية إضافية وحوار فولكلوري غير منتج حتى لتسويات سياسية.
كان في البلد يوماً ما مقاومة وطنية. هذا ما يمكن قوله الآن، والاحتفال بذلك كما يُحتفل بشهداء قضوا على هذه الدرب. لكن مَن يتذكرون يرفضون الإقرار بذلك. وهذا حق. يرفضون لأنهم أسسوا ولأنهم ما زالوا موجودين، ولأنهم أول من دفع ثمن غرق البلد ومعه المقاومة في المستنقع الطائفي، ولان المقاومة إذا ما كانت لمذهب أو طائفة، تغرق، ويدفع البلد كله ثمن ذلك.
 

السابق
زهرمان: طرابلس قنبلة موقوتة
التالي
أميركا هي من قتلت سفيرها !