النهار: بينيديكتوس من لبنان: نداء ملحّ لاستئصال التطرّف

"ان كنائس الشرق الاوسط لا تخاف لان الرب معها حتى النهاية (…) وان التوازن اللبناني الشهير والراغب دائماً ان يكون حقيقة واقعية سيتمكن من الاستمرار فقط بفضل الارادة الحسنة والتزام اللبنانيين جميعاً، وسيكون نموذجاً لكل سكان المنطقة وللعالم بأسره".
بين كلمته الأولى في مطار رفيق الحريري الدولي وكلمته الثانية في حريصا قبيل توقيعه الارشاد الرسولي من اجل الشرق الاوسط، أسبغ البابا بينيديكتوس السادس عشر في اقل من خمس ساعات الطابع التاريخي الحقيقي على زيارته للبنان، فبدت مضامين مواقفه لا تقل تاريخية عن مضمون الارشاد الرسولي. ولعل الاهمية الكبيرة لزيارته تمثلت ليس في إصراره على زيارة لبنان وسط مرحلة محفوفة بالثورات والاضطرابات والخوف على المسيحيين والاقليات في الشرق الاوسط برمته فحسب، بل لتزامنها مع تفجّر موجة غضب واحتجاجات عمّت الكثير من دول هذه المنطقة على خلفية شريط مسيء الى الاسلام. وبرزت هذه الاهمية المزدوجة في مشهد الاجماع اللبناني لممثلي الطوائف المسيحية والاسلامية والقوى السياسية في استقبال البابا "للاحتفال بانتصار الحب على الكراهية والتسامح على الانتقام والوحدة على الانقسام"، في حين كانت حلبة الاحتجاجات الصاخبة تهزّ عدداً من دول المنطقة ولا توفر مناطق لبنانية ايضاً.
واذا كانت قمة اليوم الاول من زيارة البابا تمثلت في توقيعه الارشاد الرسولي في كاتدرائية القديس بولس بحريصا وسط حشد من ممثلي الطوائف المسيحية والاسلامية وفي حضور رئيس الجمهورية ميشال سليمان، فإن ذلك لم يحجب مهابة المشهد الذي استقبل عبره لبنان الرسمي والكنسي و"الطوائفي" والسياسي بكل مكوناته، البابا الزائر الذي بدا وصوله الى بيروت كأنه نقل لبنان من ضفة الى أخرى.
واذا كانت الدولة أبرزت وجهاً لافتاً في ترتيباتها الامنية والتنظيمية المتشددة للغاية تأميناً لحماية البابا ومختلف محطات الزيارة، فإن مشهد الاستقبال الجامع في المطار أبرز في المقابل جانباً دافئاً من الابعاد التي تناولها البابا في كلمتيه والمرتكزة على واقع التعايش اللبناني وتعدديته على رغم كل ما اصاب لبنان من محن.
وأمام الرئيس سليمان ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الوزراء نجيب ميقاتي ورؤساء الطوائف والوزراء والنواب والسفراء الذين ازدحم بهم المطار، لم يتردد البابا في القول: "تعرفون مثلي ان هذا التوازن (اللبناني) الذي يقدم في كل مكان كمثال هو في منتهى الحساسية وهو مهدد أحيانا بالتحطم عندما يشد كوتر القوس أو عندما يخضع لضغوط غالبا ما تكون فئوية". وحض على "اظهار الاعتدال الحقيقي والحكمة الكبيرة وتغليب العقل على العاطفة الفردية". وأوضح انه "جئت الى لبنان كحاج سلام، كصديق لله وكصديق للبشر ومن خلال بلدكم أتيت اليوم وبطريقة رمزية الى جميع بلدان الشرق الاوسط كحاج سلام وكصديق لله وكصديق لجميع سكان دول المنطقة".
وفي حريصا قدم البابا لتوقيعه الارشاد الرسولي بقوله إن "الارشاد يشير الى طريق لاعادة اكتشاف ما هو اساسي: أن تتبع المسيح حتى في الحالات الصعبة أحيانا والمؤلمة التي تؤدي الى اغراءات لتجاهل او حتى نسيان تمجيد الصليب". وقال: "أحضكم جميعا على ألا تخافوا وأن تمسكوا بالحقيقة ونقاوة الايمان"، معتبرا أن الارشاد "يظهر انفتاحا على حوار حقيقي بين الاديان". وأكد "ان كنائس الشرق الاوسط لا تخاف لأن الرب معها حتى النهاية. لا تخافوا لان الكنيسة العالمية تسير الى جانبكم وهي قريبة منكم انسانيا وروحيا".
ومن المقرر ان يشهد اليوم الثاني من زيارة البابا ثلاث محطات أساسية، أولاها في قصر بعبدا حيث سيلتقي الرؤساء الثلاثة والمسؤولين السياسيين ورؤساء الطوائف الاسلامية ويلقي كلمة وصفت بأنها على جانب من الاهمية. ثم يكون له لقاء بعد الظهر مع رؤساء الطوائف المسيحية الكاثوليكية في مقر بطريركية الارمن الكاثوليك في بزمار. وفي السادسة مساء يلتقي الحبر الاعظم الشبيبة في بكركي.
الارشاد الرسولي
أما الارشاد الرسولي الذي وقعه الحبر الاعظم أمس، تحت عنوان "الكنيسة في الشرق الاوسط شهادة ورسالة"، فجاء في 58 صفحة وثلاثة فصول من ابرز عناوينها الحياة المسيحية والحوار بين الاديان والهجرة والبطاركة والاساقفة والعلمانيين والتعليم.
ويشدد الارشاد على أن "الحرية الدينية هي تاج كل الحريات وهي حق مقدس غير قابل للتفاوض"، ويحض دون ابطاء على "اتفاق مسكوني حول الاعتراف المتبادل بالمعمودية"، ويصف الشرق الاوسط بأنه "يختبر العلمانية بأشكالها والاصولية العنيفة والهجرة المأسوية"، داعيا اليهود والمسيحيين والمسلمين الى "اكتشاف الرغبة الالهية في تناغم العائلة البشرية". ويذكر ان "وجود المسيحيين والمسلمين في الشرق الاوسط ليس عرضيا او حديثا انما هو تاريخي".
ويفرد فصلا مهما لموضوع التطرف الديني، اذ يرى "أن الغموض الذي يكتنف الاوضاع الاقتصادية والسياسية ومهارة التأثير لدى بعضهم والفهم الناقص للدين هي من العوامل التي تشكل تربة خصبة للتطرف الديني" الذي "يصيب كل الجماعات الدينية ويرفض التعايش المدني معا". ويطلق الارشاد "نداء ملحا لجميع المسؤولين الدينيين اليهود والمسيحيين والمسلمين في المنطقة كي يسعوا من خلال مثالهم وتعاليمهم الى فعل كل ما هو ممكن بهدف استئصال هذا التهديد الذي يستهدف بلا تمييز وبشكل قاتل مؤمني جميع الديانات".   

السابق
كنائس صور احتفلت بعيد ارتفاع الصليب
التالي
السفير: البابا لمسيحيي الشرق: “لا تخافوا” .. ولمسلميه: “توازنوا”