ماذا بعد مؤتمر عدم الانحياز والانعزال؟

ليس مؤتمر دول عدم الانحياز دقيقاً في تسميته ولا في ممارسات اعضائه. عدم الانحياز كان مطلوباً ايام كان العالم منقسماً بين معسكرين، غربي رأسمالي وشرقي اشتراكي. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بقي معسكر واحد بل قطب وحيد يتحكم بالعالم هو الولايات المتحدة الاميركية، فأي معنى، بعدُ، لعدم الانحياز؟
في ظل الوحدانية القطبية انحسر تأثير حركة عدم الانحياز، بل اصبح الانحياز خياراً لدول عدة كانت اشتهرت باستقلاليتها عن حلفي الاطلسي ووارسو. مصر، بعد رحيل جمال عبد الناصر وفي ظل انور السادات وحسني مبارك، انحازت كلياً الى جانب الولايات المتحدة. يوغوسلافيا، بعد رحيل تيتو وتفكك نظامها الفدرالي، انحازت دويلاتها الوليدة الى اوروبا واميركا. الهند، بعد رحيل نهرو وابنته انديرا غاندي، خففت كثيراً من عدم انحيازها بانتهاج سياسة اكثر توازناً مع الولايات المتحدة واكثر اعتدالاً مع الصين.

في القمة السادسة عشرة للمؤتمر، حاول بعض كبريات دوله نفخ الروح في جسده المترهل بغية إعادة رسم دوره العالمي بعدما شلّته متغيرات دولية وثورية متعددة خلال السنين الثلاثين الماضية، فهل نجحت؟
لعل الجواب عن السؤال يبدأ برصد ممارسات كبرى دول المنطقة التي ينشغل العالم بأزماتها ومشاكلها المستعصية.

ايران، التي آلت اليها رئاسة المؤتمر وادارته في السنوات الثلاث المقبلة، نجحت في فك عزلتها الدولية. ذلك ان اجتماع رؤساء 120 دولة في عاصمتها يشكّل بحد ذاته إنهاء مدّوياً لعزلة حاولت اميركا واوروبا فرضها عليها منذ اندلاع ثورتها العام 1979. غير ان لإيران اهدافاً اعلى من فك العزلة. مرشدها الاعلى السيد علي خامنئي اختصرها بالقول إن العالم «يمر بفترة انتقالية الى نظام دولي جديد، وبمقدور حركة عدم الانحياز، ويجب عليها، ان تمارس دوراً جديداً».
على الصعيد السياسي، نجحت ايران في كسر الجليد بينها وبين مصر باستقبالها اول رئيس مصري يزورها منذ نحو 30 عاما. الرئيس محمود احمدي نجاد ونظيره الرئيس محمد مرسي بحثا سويةً الازمة السورية، وتوافقا على رفض التدخل الخارجي والحلول العسكرية، وترفيع مستوى التمثيل الدبلوماسي بين البلدين، وتأكيدهما ان البلدين تجمعهما شراكة استراتيجية.
غير ان مرسي لم يجارِ احمدي نجاد في الموقف من الازمة السورية. فقد دعا دولَ الحركة الى «التضامن مع نضال ابناء سورية الحبيبة ضد نظام قمعي فقد شرعيته». موقفه النافر بدا متناقضاً مع دعوته السابقة في مؤتمر التعاون الإسلامي في مكة المكرمة الى تشكيل لجنة رباعية من مصر وايران وتركيا والسعودية مهمتها ايجاد تسوية للأزمة السورية.
بينما كان مرسي يلقي خطابه انسحب الوفد السوري برئاسة
رئيس الحكومة وائل الحلقي. وزير الخارجية وليد المعلم انتقد كلام مرسي « لعدم تمسكه بالمبادىء التي تمّ إنشاء حركة عدم الانحياز على اساسها»، لافتاً الى أن سورية «كانت تؤمّل بأن تكون مصر حاضنة للحل العربي والتوجهات السلمية لمنع سفك الدم السوري».
طهران صدمها كلام مرسي. هي الاخرى كانت تؤمّل بتطوير مبادرته حول اللجنة الرباعية لتسوية الازمة السورية. ومع ذلك، استوعبت الصدمة وحاولت تطويقها بطريقتين: الاولى، استقبال السيد خامنئي لرئيس الوزراء السوري وإشارته الى أن بعض الدول يفتقر الى رؤية صحيحة الى ما يجري في سورية والى دور اميركا في تأجيج الأزمة. الثانية، حرص احمدي نجاد على الاجتماع الى مرسي مدة 40 دقيقة اتفقا خلالها، بحسب نائب وزير الخارجية الإيراني امير عبد الله اللهيان، «على ضرورة تسوية الأزمة السورية بالطرق الدبلوماسية ومنع اي تدخل اجنبي».

الى ذلك، عزا بيان للرئاسة الإيرانية الى احمدي نجاد قوله لمرسي «إن المجازر التي ترتكب في سورية لا تفيد بشيء، وينبغي إجراء انتخابات حرة ، وفي الوقت ذاته منع اي تدخل للحلف الاطلسي ودول الاستكبار»، وان مرسي شدد على ان «المشاكل في سورية لا يمكن حلها إلاّ بمساعدة الدول المؤثرة في المنطقة ومنها ايران».
اكثر من ذلك، توافق الرئيسان الإيراني والمصري على ان بلديهما «شريكان استراتيجيان». وقد اكد احمدي نجاد ان بلاده «مستعدة لتقديم مساعدتها الى الشعب المصري». كما تقاطع موقفا الرئيسين من قضية فلسطين، ولاسيما لجهة المصالحة الوطنية ودعم طلب ضم فلسطين للامم المتحدة، والتنديد بسيطرة الدول الكبرى على مجلس الأمن الدولي وادارة العالم من خلال ممارسة حق النقض «الفيتو».

اتفاق مرسي واحمدي نجاد على «ضرورة تسوية الازمة السورية بالطرق الدبلوماسية ومنع اي تدخل اجنبي»، رَفَعَ منسوب امل رئيس حكومة العراق نوري المالكي بأن تكون مبادرته لتسوية الأزمة السورية توليفاً لمبادرتي الرئيسين الإيراني والمصري حول ايجاد تسوية لها. مبادرة المالكي تضمنت تشكيل حكومة انتقالية تضم جميع مكوّنات الشعب السوري على ان تتفق الاطراف على الشخصية التي تترأسها، واختيار شخصية سورية مقبولة لدى الجميع للتفاوض مع المعارضة بهدف الوصول الى حل للأزمة، وإجراء حوار وطني بين كل الاطراف بإشراف جامعة الدول العربية، ووقف العنف من جميع الاطراف، ودعوة جميع الدول لعدم التدخل في الشأن السوري الداخلي.
كلمة الامين العام للأمم المتحدة بان كي مون كانت متوازنة بصورة عامة. فقد حثّ كل الاطراف في سورية على وقف العنف، وقال «إن اي طرف له تأثير يجب ان يكون جزءاً من حل ازمتها».
من مجمل ما جرى في قمة دول عدم الانحياز يمكن الخلوص الى استنتاجات ثلاثة رئيسة :
اولها، لا وجود لسياسة عدم انحياز حقيقية. بالعكس، ثمة انحياز واضح لدول عدّة الى سياسة الولايات المتحدة والامبريالية المعولمة.
ثانيها، ان التوصيف الأدق لدول «عدم الانحياز»، في الوقت الحاضر، هو عدم الانعزال. ذلك ان بعضاً منها، وخصوصاً إيران، تمكّنت من فك عزلتها المزمنة، وبعضها الآخر غادر موقف النأي بالنفس عن الازمات التي تعصف بعالمنا المعاصر، ولا سيما في منطقة الشرق الاوسط. لقد اضحى معظم الدول النامية في آسيا وافريقيا، اكثر انخراطاً في قضايا العالم وإن لم يصبح اقل ارتهاناً للدول الكبرى المهيمنة. ولعل عدم الارتهان هو ما يجب ان يكون هدفاً لحركة «عدم الانحياز»، وخصوصاً الدول النامية.

ثالثها، ان دعوة ايران دول «عدم الانحياز» الى المشاركة في ادارة العالم تبدو طموحة جداً ولا تتناسب مع حجم اقتصادات هذه الدول وفعاليتها في العلاقات الدولية المعاصرة. لكن نظرة متأنية الى دروس يقظة الشعوب في معظم اقطار وطننا العربي منذ مطلع العام 2011 تشي بحقيقة لافتة هي صعود مفهوم ميزان الإرادات وتقدّمه على مفهوم ميزان القوى كعامل مقرر في توجيه الصراعات وحسمها. ولا شك في ان تفعيل الدعوة الى المشاركة العامة والمساواة في الحقوق بين الشعوب وتضامنها في هذا السبيل من شأنه إنضاج حركة الإنتقال الى نظام عالمي جديد …والطريق ما زالت طويلة.  

السابق
بشار على خطى سيف القذافي
التالي
عودة الحراك والنقاش في الأوساط الشيعيّة المستقلة !!