عن أيّ إسلام تبحث أميركا لدعمه في الشرق الأوسط؟!

يبلغ العبث ذروة تجلّياته حين نصل إلى السؤال الآتي: أي إسلام تدعم الولايات المتحدة الأميركية لمشروع هيمنتها الشرق أوسطي، بالتعاون مع «إسرائيل» وبدفع منها؟! أهي مع الإسلام الليبرالي المعتدل؟ أم مع «الإخوان المسلمين» من مصر إلى تونس مروراً بسورية؟ أم مع الوهّابية السعودية التي تدعم الأصوليات والسلفيات في كل بقاع الأرض بالمال والسلاح والجهاديين؟ أم مع «القاعدة» نفسها بطلة 11 أيلول؟ أم مع طالبان؟ أم مع من…؟

ليتنا نعلم حقيقة الاختيار الأميركي، أو ليت أحداً، باحثاً أو محلّلاً أو خبيراً استراتيجياً أو حتى عرّافاً وضارباً بالرمل، يدلّنا على حقيقة الموقف وعلى الجواب عن هذا السؤال العبثيّ الغامض. ففي حين تعلن الولايات المتحدة (المنافقة دائماً في يقيننا وحساباتنا) أن تنظيم «القاعدة» هو عدوّها الأول وتطارده في كل مكان، نراها تغضّ الطرف اليوم عن حضوره العلنيّ والمنتشر والفاعل في اليمن، كذلك على الحدود التركية السورية، بدعم وتسهيل من العثمانيين الجدد حلفاء أميركا وقوات الأطلسي، ما يردّنا إلى النظرية الأولى الأساسية أن تنظيم «القاعدة» الذي خلقته الاستخبارات الأميركية في المرحلة الأفغانية ـ السوفياتية لا يزال يتحرّك بأوامر أسياده الأميركيين وهو ليس عدوّاً إلاّ في الخطاب العلني والبروباغاندا المضلّلة.

أما بالنسبة إلى «الإخوان» فإن «فكرهم» لم يعد على ما يبدو يخيف الأميركيين الذين يروّجون منذ مدة لمقولة «حق الإسلام السياسي في الوصول إلى السلطة»، والمقصود هنا «الإسلام السنّي» الذي ينشئ توازناً ـ في عرفهم وحساباتهم ـ مع «الإسلام الشيعي» الصاعد في المنطقة عبر إيران وحزب الله وحلفائهما. كما يبدو الانفتاح الأميركي هذا على الإسلاميين «مبرّراً» في مقابل حماية مصالح «إسرائيل» التي عبّرت بلسان المحلل السياسي إيتان هابر عن تخوفها من «الربيع العربي» و«التهديد الديموغرافي».

في مطلع العام الفائت ـ لنتذكّر ـ قال أوباما لشبكة «فوكس نيوز»: «لا شك في أن ثمة قلقاً من عقيدة الإسلاميين المناهضة للولايات المتحدة، إلاّ أن واشنطن تدعم سعي الإخوان المسلمين في بحثهم عن حقوقهم التي سعوا طويلاً إليها». ولو عدنا إلى عام 2006 لتذكّرنا سيئة الذكر كوندوليزا رايس قائلةً لدى طرحها مشروع «الشرق الأوسط الجديد» إنه معدّ «لمواجهة الراديكالية الإسلامية المتمثلة بإيران (لا راديكالية في الوهّابية السعودية بنظرها!) وحركات المقاومة (هنا بيت القصيد لكوندي وصهاينتها) وتنظيم «القاعدة» (تُذكر كغطاء ديماغوجي للهدفين السابقين) وأن لا مانع في أن يولد هذا الشرق الأوسط الجديد ـ تتابع كوندي ـ من رحم الفوضى الخلاّقة، فالمهمّ أن يكون «مسالماً، ديمقراطياً، صديقاً لـ«إسرائيل» وعدوّاً «للراديكالية الإسلامية (…)»!

هذا وجه من وجوه العبث الأميركي الذي ذكرت، تريد كوندوليسا رايس أن تسلّم المنطقة للوهّابية السعودية وللسلفيات المنتشرة في سائر الدول العربية والأفريقية، وللإخوان، وحتى لـ«القاعدة»، شرط أن يكون هؤلاء كحكّام جدد للشرق الأوسط «الجديد» ضدّ «الراديكالية الإسلامية» المتمثلة في نظرها ونظر أسيادها الصهاينة في إيران وحزب الله والنظام السوريّ وحركة الجهاد في غزة فقط، أما مَنْ تفسح لهم في الحكم، ويفسح لهم أوباما بدوره اليوم، فهم ليسوا من «الراديكالية الإسلامية» في شيء، إذ عرف عن الوهّابية السعودية الاعتدال والتسامح والانفتاح و«العصرنة» والحداثة والليبرالية، كذلك «الإخوان» في مصر وتونس وليبيا وسورية هم رموز الحداثة والتطوّر والعلمانية والحسّ المدني، ومثلهم السلفيون و«القاعدة» …. الشيطان متجسّد فقط في إيران وحزب الله (يقصد الأميركيون ضمناً وعلناً الإسلام المقاوم لـ«إسرائيل») ولا خطر إلاّ عندهم ومنهم وينبغي القضاء عليهم، كرمى لعيني «إسرائيل»، حتى لو بسلاح «القاعدة» والوهّابيين والسلفيين و«الإخوان» وأي قوّة إسلامية لا تضع تحرير فلسطين في سلّم أولوياتها أو ليست في الأولويات على الإطلاق، وأُسقطت من أجندة النضال والمطالب.

مقابل هذه الأصوات المسعورة والمجنونة والعبثية الموجّهة للسياسة الأميركية الأوسطية منذ نشوء «إسرائيل» ونشوء الهوس بحمايتها ورعايتها و«تسييدها» على المنطقة، وعلى الأمة السورية بشكل خاص، تتصاعد بضعة أصوات أميركية هادئة وموضوعية وعقلانية، منبّهة من عواقب هذه السياسة الرعناء الصهيونية الحاقدة والمجنونة، فيقول ماكس سينجر، أحد مؤسسي مركز «هادسون» الأميركي للأبحاث «إن الصراع الحقيقي الذي سيولد في المنطقة يتمثّل في اختلاف التيارات الإسلامية تفكيراً وتوجّهاً. انطباعي هو أن الاتجاهات السلفية والإسلامية ستزداد قوة، ويعود جزء كبير من ذلك إلى الدعم الذي يقدّمه أثرياء السعودية بشكل خاص لتعزيز السلفية والوهابية، وثمة فرصة جيدة للإسلاميين الممثلين بجماعة الإخوان المسلمين ليصبحوا القوة التي سترسم ملامح الشرق الأوسط الجديد لفترة من الزمن. لكن وجود هذه الأنظمة للسنوات المقبلة في السلطة سيعود بالسوء على شعوب البلدان العربية. وهذه الشمولية المتنامية لن تكون كارثية على الأقليات فحسب، إنّما ستضطهد حتى الغالبية بسبب عدم قدرتها على حلّ المشاكل الاقتصادية، خاصة في الدول التي لا تملك ودائع كبيرة في النفط، فالظروف المعيشية ستتدهور، ما سيؤدي إلى تراجع المنطقة سنوات إلى الوراء».
صوت العقل ينطق به ماكس سينجر هذا، أمّا صوت العبث والجنون والرهانات الخاسرة فممتدّ من رايس إلى أوباما، والخسارة الفادحة تلمع في الأفق.  

السابق
الديار تهاجم الحريري: أوقع المسيحيين ضحية لبنان أولاً فتركهم مع الأصوليين
التالي
هم على الفم وهنّ على العيون