ماذا بعد… الموت؟

على رغم أنّ الدمع لم يسكن مقلتيه، ولم يذُق قلبه مرارة الشوق ولا حتى لسعة الغياب، ولم يعرف معنى الحداد في حياته، إلّا أنّ فكرة الموت لطالما شغلت باله. فكان وهو في التاسعة من عمره، ما إن يسمع أجراس سيّدة المعونات تقرع حزناً في قريته شملان (قضاء عاليه)، حتى يهرول إلى المدافن متفقّداً المقابر. "فكرة ماذا بعد الموت قادتني مراراً إلى فتح التوابيت من دون تردّد وحتى التجوّل داخل المقابر مستكشفاً مراحل تحلّل جسد الإنسان". بحماسة متناهية يخبر جهاد ج. وهو على عتبة العقد الخامس من العمر، مشيراً إلى أنّ فضوله يزداد: ماذا يعني الموت؟ ما مصير الروح؟ ماذا عن لهيب ألسنة النار في الجحيم؟ هل نعود ونلتقي بوجوه من نحبّ في الآخرة؟… 

"رأيت شبح الموت في عيوني و… رجعت"، بهذه العبارة يختصر عمر ح. أطول أربع دقائق مرّت في حياته إثر تعرّضه لضربة بآلة حادّة على رأسه. على رغم الوقت القصير الذي غاب فيه عن الوعي، يجد هذا الشاب نفسه عاجزاً عن نسيان ما عاينَته عيناه، فيقول: "نتيجة شجار وقع مع زمرة من الشباب أثناء الصيد، تجرّأ أحدهم على ضربي بعقب بندقيته على رأسي فأرداني أرضاً. للوهلة الأولى شعرت بأنّ الأرض تدور بي، وسرعان ما بدأت أصوات من حولي تبتعد تدريجيّا عنّي، إلى أن شعرت كلّيا بالانفصال عنهم".

نفق طويل… مظلم

ويتابع عمر متنهّداً: "بعدما فقدت التواصل مع من حولي شعرت وكأنني أدخل في نفق طويل مظلم لا ينتهي، رأيت نفسي واقفاً وصور لمحطات مفصلية من حياتي تمرّ على مرأى من عيوني. إسترجعت صوراً لأشخاص أثّروا في شخصيتي منهم: والدتي، معلمتي، وحبيبتي. كما استرجعت لقاءات لطالما تمنّيت لو تتكرّر". يحتار عمر في وصف الدقائق التي غاب فيها عن الوعي فيقول: "خلت نفسي أقف على شرفة أتأمّل أيّاماً عبرت، أو كأنّني أجلس في السينما أتابع فيلماً في وقت أنا فيه البطل والمشاهد".

وعن لحظة استيقاظه، يخبر: "عادت إليّ الحياة تدريجيّا، وعدت أشعر بمن حولي بعد إسعافاتهم الأوّلية ومحاولاتهم الدؤوبة لإنقاذي، وجدت صعوبة في فتح عينيّ، خصوصاً أنّ صداعاً حادّاً ألمّ بي".


نار لا تنطفئ وأبالسة وديدان…

يصعب الحديث عمّا بعد الموت من دون التعريج على خبرة الأب جوزي Maniyangat الهندي، الذي صدمته سيارة في 14 نيسان 1985 بينما كان يتنقل على درّاجة ناريّة. فيخبر تفاصيل ما عاشه أثناء نقله إلى الطوارئ: "في الطريق خرجَت روحي من جسدي واختبرت الموت، التقيت بملاكي الحارس الذي أخبرني أنّني سألتقي بالرب، بعد مروري في جهنّم والمطهر".
وعمّا رآه في جهنّم، يخبر جوزي: "كان المنظر مرعباً، شاهدت الشيطان والأبالسة وناراً لا تنطفئ حامية جداً، وديداناً تزحف وأناساً يصرخون وآخرين يتعذّبون، بسبب خطاياهم المميتة، التي لم يندموا عليها، منها الإجهاض، اللواطية، البغض، الحقد، تدنيس المقدّسات…".
وينتقل جوزي للحديث عن المطهر، قائلاً: "حرارة المطهر أقلّ بكثير من حرارة جهنّم، تغيب فيها المشاجرات والمعارك، حيث ألم الناس الرئيسي هو الافتراق عن الله. إلّا أنّ بعض النفوس الموجودة في المطهر تصالحت مع الله قبل موتها، لذا على رغم تألّمها تعلم أنّها ستعاين الله يوماً ما".
وقبل أن يصل جوزي إلى السماء، يخبر: "مررت بنفق أبيض كبير وبرّاق، يشعرك بالفرح والسلام، ثمّ انفتحت السماء، وسمعت أجمل الموسيقى تغمر القدّيسين. وبعدها مثلت أمام الله الذي دعاني للعودة إلى الحياة ثانية لأكون أداة سلام لأبنائه".
ويتابع جوزي واصفاً لحظة إعلان خبر وفاته: "عندما عدت إلى العالم مع ملاكي الحارس كان جسدي في المستشفى والطبيب يكمل الفحوص، من ثمّ أعلن وفاتي بسبب النزيف".
وأضاف: "تمّ الاتّصال بعائلتي لتتسلّم جثتي قبل تحلّلها، وخلال نقلي، عادت نفسي إلى جسدي، شعرت بألم فظيع بسبب جراحي والكسور في عظامي. بدأت أصرخ فخاف الناس وهربوا، على إثرها جاء الطبيب ليفحصني ويعيدني إلى المستشفى لمعالجتي". 

الموت موجود ما دامت الحياة

من جهته، يوضح الأمين العام للمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى في دار الفتوى الشيخ خلدون عريمط رؤية الإسلام للموت، فيقول: "الموت حقّ على كلّ إنسان، وسيبقى الموت موجوداً ما دامت الحياة، لأنّ هناك تلازماً دائما بينهما"، مشيراً في الوقت عينه إلى وجود اختلاف في آراء علماء الشرع: "منهم من قال عن الموت إنّه "عدم الحياة"، واعتبره شيئاً سلبيّاً، وبعضهم اعتبره صفة وجوديّة مضادّة للحياة، وبعضهم الآخر اعتبر أنّ الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف، إنّما هو انقطاع تعلّق الروح بالبدن، وتبدّل حال وانتقال من دار إلى دار".
أمّا عن مصير الإنسان بعد الموت في الإسلام، فيوضح عريمط: "الجسد بعد الموت، يموت ويفنى، أمّا الروح فتعود الى خالقها. وفي يوم القيامة الذي فيه تكون نهاية الكون والحياة على هذه الأرض، هو يوم الحساب، فيه يبعث الناس للوقوف بين يدي الله تعالى للحساب والجزاء".
                                                            
ما لا عين رأت ولا أذن سمعت…

وعمّا ينتظر الإنسان في الآخرة، يجيب عريمط: "وعد الله مؤمنيه بجنّة عرضها كعرض السموات والأرض أعدّت للمتّقين، فالحياة محطّة مرور الى الآخرة، أمّا الخلود الأبدي فيكون بعد الموت. وقد أشارت الأحاديث النبويّة الشريفة الى نعيم الجنّة وما فيها من أنهار وأشجار ورياحين، حيث لا حسد ولا لغو ولا نفاق ولا كذب ولا موت، إنّما شباب دائم تطفح وجوههم بالنضارة والجمال، ولا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً، فأهل الجنّة هم في نعيم مقيم، وقصور واسعة وأحجار كريمة وخيام رائعة الجمال فائقة الصنع بجنائنها العريضة، وفيها كما أكّد رسول الله عليه الصلاة والسلام (إنّ في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر).
في هذا الإطار، يلفت عريمط إلى أنّ الجنة في انتظار المؤمن بالله فقط، قائلاً: "ليس من العدالة أن يتساوى المؤمن والكافر، أو أن يتساوى المطيع للّه والعاصي له". وينتقد اختصار البعض للجنّة بوجود النساء والحوريّات والجنس بلا انقطاع، فيقول: "نعيم الجنّة لا حدود له، ولكن ليس صحيحاً أن يختصره بعضهم بوجود النساء والحوريّات، إنّما يشمل كلّ ملذّات الحياة ومكرماتها للمؤمن ذكراً كان أو أنثى".

السابق
لبنان يضيع 6 مليار $
التالي
نغمة الحداثة؟