المسألة العربية هل نحن همجيون؟

 تناولت في المقالات الثلاث الماضية ثلاثة أسئلة جذرية حول «المسألة العربية»، هي: (لماذا يحبوننا)، (هل نحن هامشيون)، (هل نحن مستهدفون). والمساءلة الأخيرة بالذات مثيلة لما يتم تداوله بتكرار في «المسألة اليهودية» التي كتب عنها دستويفسكي وماركس، وآخرون من بعدهم. السؤال الرابع الذي نتناوله اليوم يتقاطع أيضاََ، في مواضع كثيرة، بين المسألة العربية والمسألة اليهودية، لكن التلاقي بين «أبناء العمومة» يأتي هذه المرة بصورة مغايرة في المآلات، فاليهود الذين كانت تصفهم روايات الأدب الأوروبي دوماََ بأنهم همجيون بذيئون انتهازيون جشعون، هم الذين يصفون أنفسهم بالمقابل أنهم ليسوا فقط غير همجيين، بل هم شعب الله المختار!
استمرت تلك الثنائية المتعاكسة في توصيف اليهودي منذ القرون القديمة حتى حدوث المحرقة النازية، التي جعلها اليهود «محرقة النجاة» لهم من توصيف اليهودي بالهمجي.
حينها كان لا بد للإنسان الأوروبي المتمدن (والأميركي من سلالة الأوروبي) أن يجد أيقونة للهمجية بديلاََ عن اليهودي الذي لم يعد الأوروبي يراه غير همجي بل لم يعد قادراََ على وصفه بالهمجي!
كان العربي هو البديل الملائم عن اليهودي، ليكون أيقونة الهمجية في العالم المتحضر. واشتغلت آلة الإعلام الغربي (السينما خصوصاً) منذ الخمسينات من القرن الماضي على تشريب الذهنية الغربية بأن العربي هو مخزن الهمجية والشهوانية والعنف. كانت الصورة ترتكز في الخمسينات والستينات والسبعينات على تكريس نمطية العربي الشهواني الفاجر مستصحبَََ رموز الخمر والحريم والنفط، ثم تحولت منذ الثمانينات حتى اليوم إلى صورة العربي المتشدد الإرهابي مستصحباً رموز اللحية والمصحف والقنبلة.
نجحت آلة الإعلام الغربي، بلا شك، في تنميط صورة العربي على هذه الشاكلة، لكنها لم تتخيل أو تطمح أن تنجح رسالتها التنميطية إلى درجة أنها تتسرب إلى ذهنية بعض العرب أنفسهم!

هل العرب همجيون؟!
بل لنجعل سؤالنا أكثر إنصافاً، فنقول: هل العرب أو اليهود همجيون؟! وهل هناك عرق محدد من البشر يمكن وصفه، على الدوام، بأنه همجي؟
نفت الاكتشافات العلمية الحديثة والدقيقة في مجال دراسة الجينات والمورثات البشرية أيّ تمايز أخلاقي مبني على تمايزات خَلْقية قارّة في جنس بشري من دون غيره… رقيّاً أو انحطاطاً. وما قيل حول همجية اليهود أو همجية العرب، وخصوصاً قول ابن خلدون، هو تواطؤ مسلكي منوط بالتربية والثقافة لا بالخَلْق والوراثة. وقد استطاع حي بن يقظان أن يقدم نموذجاً ناصعاً لتأكيد أن الهمجية والبدائية هي تخلّق لا خَلْق.
ونحن نشعر، عند الغضب الشديد أو الفرح الشديد، أن داخل كل إنسان منا يوجد كائن همجي كامن، يُطلّ برأسه عندما تحتدّ مشاعرنا، ويتفاوت حجم إطلالته وصخبه حسب تربية وتنشئة الإنسان الحاضن لهذا الكائن.
ويمكننا أن نوظف هنا تشبيه ليفي شتراوس، البدائية والتمدن بـ (النيء والمطبوخ)، في أن نقول بأن الإنسان هو لحمة مطبوخة على نار الحضارات المتعاقبة، لكننا عندما نتعمق بالسكين داخل هذه اللحمة سنجد لحماً نيئاً بالداخل لم تبلغه عملية الطبخ. نحن نختلف من إنسان إلى آخر على قدر ما فينا من لحم نيء غير مطبوخ، ومهما تتعرض اللحمة من طبخ فسنجد داخلها بقايا من لحم نيء أو غير ناضج، ما لم يتم إحراقها بالكلية… إحراق الإنسان من بشريته!

يؤكد هوبز أن «السلطة هي الشيء الوحيد الذي يقف بيننا وبين العودة للهمجية». أتفق مع هذا التحذير، ولكن بالمقابل أؤكد أن السلطة ذاتها (وبمعنى التسلّط هنا) هي التي تفتح المجال لارتكاب الهمجية من جديد… همجية القوي ضد الضعيف.
بهذه الكيفية من التأويل يمكننا فهم الهمجية التي تقوم بها دول وجماعات متمدّنة، كالمجازر الأوروبية التي قام بها الفرنسيون في الجزائر والإيطاليون في ليبيا والأميركيون في أفغانستان والعراق والتواطؤ الغربي مع إسرائيل في المذابح ضد الفلسطينيين. ويمكننا استذكار الإبادة الوحشية التي ارتكبها الإنسان الأوروبي الأبيض «المتحضر» ضد السكان الأصليين «البدائيين» في أميركا وأستراليا، خصوصاً. كما يمكننا تفسير «السعادة الهمجية» التي كانت بادية على وجوه الجنود الأميركيين في الصور «التذكارية» التي التقطوها إبان فضيحة سجن أبو غريب.

أسوق هنا نماذج همجية للإنسان الأوروبي المتمدن، ولا حاجة أن أسوق بالمثل نماذج همجية للإنسان العربي الموصوف بالهمجي الآن، فتاريخ العرب القديم والحديث مليء بالحكايات المماثلة للحكايات الأوروبية. لكن التحيز وعدم الإنصاف هو الذي يقوم حالياً بتصوير العنف العربي بأنه غير مبرر حتى يصبح همجياً، في حين يتم تبرير العنف الغربي حتى يتم تصويره، ليس فقط بأنه غير همجي، بل إنه ضروري لإقامة العدالة والحرية والتمدين!  

السابق
حوار عن يوم البيئة العالمي في الكتيبة الإيطالية
التالي
مادونا تغني مرتدية وجه مبارك