سلامة كيلة

"قابل الضابط أجوبتي بشتائم قاسية، ووصفني بالكلب والحقير، وضربني ضرباً مبرحاً بكيبل عريض ظهرت آثاره على جسدي بوضوح، وتعرضت لنفس الشيء مرات على مدار يومين…".

"…عندما خرجت وجدت طبيباً ينتظرني لفحصي، وعرفت أن هذا الفعل حدث عندما ثارت ضجة عن أنني قد أموت، الطبيب فحصني وذهل مما شاهد من تعذيب".

"المشكلة بدأت عندما أردت الذهاب إلى الحمام للتبول فسمح لي أول مرة، وفي المرة الثانية رفض وطلب مني التبول في كيس قذر، ولأنني كنت أخذت جليكوز فصرت بحاجة للتبول كثيراً، فرفض بعد ذلك أن أذهب للتبول، وطلب مني التبول على نفسي وهو ما حدث للأسف، وتكرر الأمر في كل مرة بعد ذلك، كنت أبول على نفسي لأيام، لذا قمت بتقليل حجم الماء والطعام الذي أتناوله".

لا يحتاج المرء الى جهد كبير ليستنتج ان هذه العبارات قالها معتقل سوري، وليس ايرادها هنا بهدف فضح ارتكابات النظام في سورية، فهناك من الوقائع اليومية السورية ما يفوقها فداحة وهتكاً. لكن قيمة ما ورد اعلاه يتمثل في ان من قاله هو الكاتب السوري سلامة كيلة، ولمن لا يعرف الأخير، فهو كاتب يساري سوري معارض من أصل فلسطيني، شيوعي وشديد الحساسية حيال الاحتمالات الثيوقراطية للمستقبل السوري، نابذ للعنف بكل أشكاله ومنه ذلك الذي مارسه الثوار في سورية. وكيلة هو ممن وصفهم داعون للحوار، من معارضي اسقاط النظام في سورية، بانه نموذج من معارضي الداخل الذين ممن يجب ان "يُستدرجوا الى طاولة المفاوضات بين النظام وبين معارضين له". أضف الى ذلك ان كيلة كاتب معارض في صحف موالية، وفي اعتقاله وتعذيبه رد بالغ على ما تدعونا اليه هذه الصحف لجهة القبول بالـ"اصلاحات" التي من المفترض ان تشمل استيعاباً لاصوات معارضة.

وكيلة ليس من معارضة "أضعف الايمان"، فالرجل صلب في رفضه نظام "البعث"، لكنه أيضاً معارض وبنفس الصلابة لـ"البديل الاسلامي" وهو ما يتقاطع مع مخاوف "يسارية" وُظفت في خطاب "رفض الثورة في سبيل تفادي البديل الاسلامي"، وللقول بأن الاوتوقراطية غير الدينية سيئة لكن الاوتوقراطية الدينية تفوقها خطراً، ذاك انها تطاول جوهراً فردياً في حياة من تشملهم بحكمها!

وقبل ان يتورط المرء في سجال الاحتمالات الاسلامية للثورة السورية، يجب التأمل في صحة القول ان الاستبداد غير الديني قد يفسح مجالاً لبعض الخيارات الشخصية لا يُفسح الاستبداد الديني لها مجالاً. فما الذي بقي من فردية سلامة كيلة ولم يشمله الانتهاك؟

الارجح ان فكرة "الاختيار بين السيء والأسوأ" في معادلة تقديم الاستبداد "العلماني" على الاستبداد الديني، لن تنجح اذا ما اختبرت في سورية، كما ان اختبارها في كل من عراق صدام حسين (البعثي والعلماني) وايران الخمينية الدينية، سيفضي الى قناعة تتمثل في ان عدد ضحايا استبداد "البعث" الصدامي هو أضعاف عدد ضحايا استبداد الخمينية في ايران.

ثم انه ليس عدلاً ولا منطقياً ان يُساجَل السوريون بهدف اقناعهم بالقبول بمستبد يقتلهم اليوم تفادياً لمستبد أقسى سيقتلهم غداً. فالألم هو الراهن، هو الآن، هو اللحظة التي هوى فيها الجلاد على قدمي سلامة كيلة المريضتين.

نعم هاجس الدولة الدينية مؤجل لمن هذه حالهم، اما نحن الذين تنبعث رائحة الشواء البشري من حولهم فتصيبهم بمجرد صداع، فنستطيع ان نختلف، وان نقول للهاذيين، رويداً يا أصدقاء، تونس ليست اسلامية اليوم، ولن تكون، وفي اليمن كان الاسلاميون شركاء في السلطة وفي تعميم القيم، وهم اليوم شركاء، وفي مصر سرعان ما بدأت نتائج الانتخابات البرلمانية بالتبدد، وفي المغرب اقترب الاسلاميون منا على نحو لم نقترب نحن فيه من أنفسنا، وفي الجزائر لم تحقق جبهة الانقاذ نتائج مشرفة في الانتخابات.

اما "القاعدة" التي تلوح في خطاب التهويل من الثورات، فقراءة الوثائق الأخيرة لبن لادن تكشف ما أحدثت الثورات العربية في خطابها وفي جسمها من وهن تُوج بمقتل زعيمها في ذروة اشتغال التغيير في العالم العربي.

السابق
قطع الطرق المؤدية الى ساحة عبد الحميد كرامي لاقامة صلاة الجمعة
التالي
قتيل وجريح في حادث سير في كفرتبنيت – النبطية