الحرب تقتل مرتين

تقتل الحرب مرتين. الاولى حين تندلع بين أبناء البلد وتنجب نهراً من الجنازات والشهداء والأرامل والأيتام والبيوت المحروقة. وتقتل ثانية حين يتوقف إطلاق النار ويتهرب المتحاربون من استخلاص العبر. في غياب العبر والدروس تبقى كل هدنة مهددة ويتحول السلام مجرد محطة انتظار للحرب المقبلة.

لا تنتهي الحرب بمجرد وقف النار. ولا بتبادل القبل. ولا بتقارير المراقبين. تنتهي فعلياً بقراءة أسبابها ومجرياتها، ثم التقدم نحو مشروع طي صفحة الحرب بمعالجة أسبابها السياسية او الاقتصادية او المذهبية. تنتهي الحرب بقرارات عاقلة ومؤلمة.

اخطر ما يمكن أن يحدث هو اللجوء إلى رش السكر على الموت. الهروب من المسؤولية. محاولة القول ان الحرب كانت مجرد انتكاسة عابرة وأن المواطنين يعانون منذ لحظة انتهائها من الاختناق بفعل شدة العناق. او القول ان كل ما جرى هو مجرد مؤامرة خارجية تسللت تحت جنح الظلام واستغلت جهل حفنة من المواطنين وضعفاء النفوس. وأن البلد خرج من المحنة اقوى مما كان. وأن المرض الذي لا يقتلك يزيد مناعتك. وأن المسألة برمتها محاولة لاستهداف الدور الرائد للبلد. وأن العاصفة جاءت من الخارج في حين يعاني المقيمون في الداخل من فرط السعادة والبحبوحة ويسبحون في أجواء الحرية والطمأنينة.

لا خروج من الحرب اذا اعتبرت أن من حق مواطن أن ينتصر على آخر. وأن يقتاده صاغراً للتوقيع على وثيقة استسلام او ما يشبهها. وإذا انتزعت القداسة لشهدائك واحتقرت شهداء الآخرين. إذا اعتبرت شهداءهم خونة وعملاء ومضللين ومتعاطي حبوب الهلوسة وعبيد سفارات. لا خروج من الحرب إذا طالبت بالاحترام الصارم لرموزك وهددت بالويل والثبور لمن يجرؤ على المساس بها ومارست في الوقت نفسه حملة تتفيه واحتقار لرموز الآخرين. لا خروج من الحرب اذا قدست ضريحاً واحتقرت ضريحاً. ولا خروج من الحرب اذا اعتبرت سفك دماء الآخرين مجرد حادث عابر وإذا شككت في محاولات اغتيالهم كأنك تأسف لعدم نجاحها. ولا خروج من الحرب اذا تغطيت بانتظار نتائج التحقيقات لتفادي الإدانة القاطعة لنهج الاغتيالات. ولا خروج من الحرب اذا اغمضت عينيك عن عائلة مذبوحة من الوريد الى الوريد وعن بيت محترق من الوريد الى الوريد. وإذا اعتبرت مقتل محازب لك كارثة واعتبرت مقتل قرية معارضة حادثاً مرورياً ورحت تتهم أبناء من قتلوا بالاستغلال السياسي لمجرد احتجاجهم على الفتك بذويهم.

اكتب في ذكرى 13 نيسان (ابريل) 1975 اي ذكرى الرصاصة الاولى في الحرب اللبنانية. شاهدت برنامجاً تحاور فيه شبان ولدوا بعد ذلك التاريخ. النتيجة واضحة ومؤلمة: لم نتعلم. لم نجرؤ على إجراء مراجعة جدية. لم نتعلم من تجربة التحالف مع اقوياء سرعان ما نتحول بيادق في ايديهم. لم نتعلم احترام شهداء الآخرين والاستماع بعمق الى هواجسهم ومخاوفهم وحقهم في الاختلاف. نريد الانتصار على الآخرين. ومسح ملامحهم. وإلزامهم بارتداء الزي الموحد. نريد تطويعهم في الجغرافية وإخراج رواياتهم من التاريخ.

انا لا اقول انها كانت حروب الآخرين على ارض لبنان. ساهم اللبنانيون من مواقعهم المتناقضة في اوسع عملية انتحار واغتيال. لكن لا بد من القول ايضاً ان لبنان عوقب لأنه كان يحمل ملامح الربيع العربي. جاء باكراً. كان صيغة تعايش واعتراف متبادل. وكان ينتخب. وكان الرئيس يغادر القصر فور انتهاء ولايته. وكانت صحافته حرة. وكان قضاؤه مستقلاً. ادركوا باكراً خطورة الربيع اللبناني وقدرته على اشاعة الاسئلة. عاقبوه وشرذموه وأفسدوه ومزّقوه وطوّعوه. وها هو الربيع ينتابهم بعد عقود.

الحرب تقتل مرتين. الاولى حين تندلع. والثانية حين لا نجرؤ على مواجهة اسبابها. لم يتعلم اللبنانيون، فهل تعلم السودانيون؟ وماذا عن العراقيين واليمنيين والصوماليين؟ وماذا عن السوريين ايضاً؟ الاستمرار في إنكار اسباب الحروب ودروسها يعزز احتمالات استمرارها او عودتها. القوة ليست حلاً. البطش ليس دواء.

السابق
الحياة: بري يجدد مآخذه على الحكومة بعدم الإنتاجية وميقاتي ضد إقحامه في اختلاف الطوائف
التالي
اللواء: دعوات للتظاهر اليوم تحت شعار جمعة ثورة لكل السوريين في أول اختبار لنوايا النظام