إلى أن يطالب السيّد حسن بالفدراليّة

شاء التاريخ المعاصر أن تحدّ لبنان دولتان، سوريا وإسرائيل، فعرف لبنان مقاومتين، مسيحيّة وإسلاميّة. لو كان للبنان حدود مع تركيا، ألم تكن لتقوم مقاومة أرمنية؟ لقد شعر الموارنة والدروز والشيعة والأرمن، بالظلم في مكان ما من الجغرافيا، وفي زمن ما من التاريخ، فرحلوا إلى لبنان تباعاً. من فرادة هذه المساحة التاريخيّة، أنّ مَن يستقرّ فيها، إذا ظُلم، يعود لا يفكّر في الرحيل، بل في المقاومة. وحدهم السنّةُ جاؤوا بقدر من الراحة التاريخيّة، فلمّا شعروا بظلم النظام السوريّ، ثاروا. قد لا يكون في الأمر بطولة، بل مكرهٌ أخوك لا بطل.

الأديان حطّت بنا هنا. وما نجحنا هنا، إلّا في ما لم نَجئ من أجله: الاقتصاد والعلم. في مراحل متفرّقة من التاريخ، تعاقبت الطوائف في إضاعة فرص الحلول الجذريّة لها ولغيرها. اليوم، وحدهم الشيعة، معقود عليهم… أمل ضعيف.

من سوء النيّة أو حسنها او سذاجتها، أنّ الكثير من القادة اللبنانيّين، إذا شعروا بأنّ مشروع طائفتهم انتصر أو قارب النصر، قدّموا هذا النصر «لكلّ لبنان، بكلّ طوائفه»، فيمعنون في تعميق جروح المهزوم أو غير المعجب بنصر «الآخر». شيعة اليوم، بقيادة «حزب الله»، يترنّحون بين انتصار كلّ الطوائف، أو هزيمة ستكون من نصيبهم وحدهم. في التراث الشيعي، جرأة الموت تغلب كلّ جرأة في الحياة الدنيا. هم قريبون من «منحى مسيحيّ»، فمملكتهم ليست من هذا «الزمان»، إلى أن يعود المنتظر. «حزب الله» وارث شيعية أصيلة مفتتنة بالطرق المسدودة. هم إمّا ناظرون الى فوق، حيث الله، وإمّا ساعون الى التراب، حيث الشهادة طريق آخر إلى الجنّة. في عمقهم، «حزب الله» زاهدون في الدنيا، والزاهدون بارعون في حسابات السياسة والمصالح والوقائع، ولكن ليس إلى حدّ الامتناع عن الافتتان بالطرق المسدودة. هم يقاومون إسرائيل، وينادون بزوالها، ومتيقّنون أنّها لو زالت لما كان لهم أيّ نصيب في دولة فلسطين الإسلامية. فلسطين التي فتحها الخليفة عمر. وهل منّا مَن يعرف شيعيّاً اسمه عمر؟ مملكتهم ليست من هذا «الزمان الإسرائيلي» أو حتى الفلسطيني بشقّيه: حماس أو فتح. فلسطين واجب دينيّ لوجه الله. بعض جهلة السياسية، ينعت «حزب الله» بالتبعية لطهران. السيّد حسن نصرالله، شريك في رسم سياسة طهران. هو إلى الطاولة، ولا يجلس على كرسيّ خلفيّ. لا بل ضرورات المعركة تجعله متقدّماً بين متساوين. ثمّة أخصام لـ»حزب الله» يهينون عقولهم عندما يتكلّمون عن عمالة. العميل لا يضحّي بحياته. خوفنا على «حزب الله» يوازي خوفنا منهم. هذا الخوف ليس سببه «فائض القوّة»، بل عدم تنبّههم إلى «فائض المعنى» في قضيتهم. كلّ القضايا مُحقّة، ولكن «فائض المعنى» حول أسامة بن لادن شرّيرا، وهتلر شيطانا، وستالين مجرما، وكلّ هؤلاء هواة إذا قورنوا بحكّام كوريا الشمالية اليوم، لكن لم تأتِ ساعتهم بعد. قِصر النظر جعل بعض أخصام «حزب الله» يخاف من «فائض القوّة»!! ولاية الفقيه منحى لم يعرفه التاريخ الشيعي من قبل، وما يهمّ ليس مرجعية التقليد فيه، بل خرقه للتقليد. بعض وقائع التاريخ تكشف أنّ الشيعة قاموا بالثورات ولكنّ السُنّة من قطف ثمارها. فهل يملك «حزب الله» قدرة الخرق هنا؟ ولكن في أيّ اتّجاه؟ هم الأقوياء «بقضيتهم» اليوم، هل يملكون جرأة البحث في صيغ الفدراليّات؟ المؤكّد أنّ ثمّة فدراليّة ما تنسجم مع «قضيتهم» وقضيّة غيرهم. هل يملكون الجرأة المعنوية لطرح هذا الاحتمال أم أنّ الجرأة مقتصرة على الشهادة فقط؟ سيبقى لبنان دولة واحدة، في كلّ الصيغ الفدرالية التي قد تُعتمد. لم تقدر ولن تقدر الطوائف أن تبتعد بعضها عن بعض. ولكن يمكن ان تتوقّف معارك ابتلاع بعضها بعضاً. الفدرالية الصحيحة نقض لمفهوم إسرائيل، دولة وكيانا. وهذا موضوع له وقته. ما يمكن قوله الآن، إنّ الفدرالية لا يمكن إلّا أن تنسجم مع «مقاومات» الطوائف، ولا يمكن أن تسعى إلّا لتحقيق أهداف هذه المقاومات. سعيها سيكون صادقاً، وليس على طريقة «ورقة تفاهم» لتقاسم سلطة عابرة. «ورقة التفاهم» هي ورقة، وفي أفضل الأحوال «تفاهم».

إذا كان السيّد حسن نصرالله لا يجد غضاضة في الإقرار بالتعدّدية، فمرونة الفقه الشيعي يجب ألّا تتحرّك تحت الوطأة دائما. ثمّة خرق آخر للتاريخ التقليدي، يمكن أن يسجّله مُريدو «ولاية الفقيه». ثورة على الذات في سبيل الذات. من باب الصدق، حين كانت «الجمهورية الإسلامية» في ضيق، يمكن أن نتفهّم قبولها السلاح من إسرائيل لمحاربة صدّام حسين. ضعيف المنطق من ينسج خرافات حول هذا الأمر. في المقابل يجب ألّا يحرّك «فائض المعنى» حزب الله، كلّما سمع برأي لم يوقّع ورقة معه. ماذا يريد السيّد حسن نصرالله ورفاقه؟ هل يريدون أن يكونوا من فئة أدهم خنجر؟ فيكتفوا بزيادة أسماء الأبطال والشهداء إلى تاريخهم؟ أم يريدون صنع تاريخ جديد؟ تاريخُ الشيعة فيه من هذه الفئة ما يكفي ليخدم قضيتهم الى يوم الدين. الشيعة والموارنة والسنّة والدروز، وكلّ الطوائف، تحتاج الى رجال يعملون في داخل جماعتهم، ويخرقون التقليد، ليصنعوا «التاريخ الجديد». إنّهم رجال الخطّ المستقيم: يبدأ من نقطة ولا يعود إلى الوراء. رجال البطولة والشهادة، ينطلقون من نقطة ويتحرّكون في اتّجاه دائري. رحلة حياتهم جميلة، ولكن يعيدون جماعتهم دائماً الى حيث بدأوا. إلى نقطة الصفر. أليس العرب من اخترعوا الصفر؟

السابق
أزمة المواجهة من كوبا إلى سورية
التالي
ويتني هيوستن ماتت غرقاً