تحالف بيروت والقوّات والزفّة القادمة

لم يستطع سعد الحريري تقديم صورة «الزعيم الحاضن والحامي» لجمهوره. انصاره عاتبون عليه. وبعد أكثر من عقدين من العداء مع القوات اللبنانية، وجد جزء كبير من أنصار الحريري صورة الزعيم في سمير جعجع. العلاقة مع عدو الأمس تسير بسلاسة. في الطريق الجديدة، خير مثال على ذلك

عام 1982 ابان انسحاب المقاتلين الفلسطينيين من بيروت، ودعت بضع عائلات بيروتية قوافل الفدائيين بالزغاريد ونثر الارز في حرج صوفر، حيث كان أغلبهم قد لجأوا الى الرويسات وجوارها خلال حصار بيروت من العام نفسه. كان احمد يشد على قبضة ابنه وليد ويرفعه عالياً ويغني للفلسطينيين: راجعة بإذن الله… اليوم كبر وليد. في مكان عمله، يفتح حسابه الخاص على الفايسبوك ليكتب تعليقه اليومي.

بعد احداث 7 ايار 2008، كتب على صفحته الافتراضية العبارة الآتية:
«الحزب القومي لم يكن يوماً وطنياً.. فهو اغتال رمزين وطنيين عظيمين هما الرئيس رياض الصلح والشهيد الرئيس بشير الجميّل».
وليد لم تخنه ذاكرته. بل هو قرار فردي بالتنكر لها، تكيفاً مع تحالف ضرب عرض التاريخ.
فالقوات اللبنانية عاشت منبوذة في عيون البيارتة حتى 14 شباط 2005. يومذاك قتل النظام السوري – حسب الرواية الرسمية لـ«ثورة الأرز» – الرئيس رفيق الحريري. وحينذاك، كان سمير جعجع مسجوناً من قبل النظام نفسه (قاتل الحريري) – حسب 14 آذار. ومن كان قبل هذا التاريخ من اهل بيروت متشفياً بالأحكام التي صدرت بحق سمير جعجع، اضحى بقدرة «الثورة» أخاً في «النضال المشترك» ضد النظام السوري امام الضريح.
لم يعد سمير جعجع سجيناً لدى «حكومات رفيق الحريري»، بل اضحى اطلاق سراح الرجل نفسه مطلباً مشتركاً للثوار عندما رفع شعار «الحقيقة» لأجل الحريري نفسه. فُتحت الزنزانة. خرج الرجل بصورة رمزية لانتصارات 14 آذار بعصبها الجماهيري السني «بأغلبه»، فأقفلت ملفات الحرب الاهلية واغتيال الرئيس رشيد كرامي، ونُبشت اخرى كاغتيال المفتي حسن خالد وغيره.
ركز البعض على الشكل الخارجي لسمير جعجع. بدا الرجل شاحباً وقد فقد الكثير من وزنه. لكن حراكه السياسي كان اسرع من المتوقع.
على شاشات التلفزة، كان شريط الاحداث يمر بسرعة امام اعين ابناء العاصمة. حينها كان البيروتي يتكلم وينتقد بصوت عال، ويرى جعجع يهاجم النظام السوري «مثله». جعجع في التحالف الرباعي «معه». جعجع يصافح السيد حسن نصر الله «مثل ابن الشهيد»، جعجع يبتسم ويوافق في طاولة الحوار على خطاب فؤاد السنيورة «صديق الشهيد».
القوات اللبنانية .. mission accomplished
كان هناك امر ينقص جعجع.. فأمام العتب الداخلي في شوارع بيروت على من يرى «الحكيم» حليفاً حقيقياً لأبناء العاصمة، كان لا بد من اقفال هذا الجدل، وهذا ما كان بالفعل، اذ اتى الاعتذار الشهير ومتى؟ بعد 7 أيار مباشرة.
اعتذر سمير جعجع عام 2008 متأخراً 18 عاماً عن انتهاء الحرب الأهلية و3 اعوام بعد بداية التحالف. تم ذلك يوم 21 ايلول، أمام حشد قواتي في ملعب جونيه، بمناسبة الذكرى السنوية «لشهداء» القوات.
حينها اعتذر عن كل «جرح» أو «اذية» او «خسارة» او «ضرر غير مبرر»، تسببت فيه القوات خلال «أدائنا لواجباتنا الوطنية طوال مرحلة الحرب الماضية»!
الشارع البيروتي اقام في بيوتاته وصالوناته محاكم تمييز خاصة، رفع فوقها قوس «المناصرة»، وأخذ يذهب بعيداً في اطلاق الاحكام العرفية الخاصة. والنتيجة كانت تُستخلص بالموقف اليومي، او بشريط من المواقف الآنية. وبالفعل بدأت الاحكام:
حزب الله يدخل بسلاحه شوارع بيروت، يُسقط تيار المستقبل بما هو تنظيم مسلح. جعجع يهدد ويرفع الصوت. أبناء العاصمة يطالبون حزب الله بالاعتذار. تمرّ 3 أشهر، فيأتي الاعتذار من ملعب فؤاد شهاب في جونيه عن كل ما ارتكبته القوات في الحرب الاهلية اللبنانية السابقة، يسوق تيار المستقبل اعتذار جعجع بطريقة غير مسبوقة. النتيجة: جعجع بيروتي.
اكملت القوات واجبها حتى الرمق الاخير. جعجع يهاجم ايران. جعجع في الكويت. جعجع يصافح «الحليف الاكبر» حينها حسني مبارك. جعجع في السعودية… النتيجة: جعجع عربي.
تفاقم الوضع المذهبي. افرزت المنطقة وتبدلاتها السريعة انقساما اضحى واضحاً جداً بين السنّة والشيعة. جعجع مع الثورات. جعجع لا يرى ضيراً في تولّي الحركات الاسلامية دفة الحكم في العالم العربي. جعجع يلقى الغزل من الجوزو ومن عمائم اخرى. النتيجة: جعجع سني!
يتابع البيروتي المشهد السياسي: إقصاء سعد الحريري عن رئاسة الحكومة. يغضب البيروتي. يسافر الشيخ سعد. تعصف الأزمة المالية بتيار المستقبل. يمتعض الشارع السني بصمت من زعيم يخاطبه عبر «تويتر». جعجع هنا. جعجع يحيي الثورة السورية مباشرة على الهواء، وبالصوت والصورة. جعجع يكثف اطلالاته الاعلامية. النتيجة: جعجع زعيم.
قوى 8 آذار مازالت تعيد الكرة لكل هذا الشريط السريع، المشهد السياسي يبدأ بالنسبة إليها منذ لحظة اغتيال الرئيس رشيد كرامي 1987، إذا لم نقل منذ مجزرة اهدن عام 1978. الامر الذي يجعل من «سنّة 8 آذار» تحديداً بعيدين عن الشارع البيروتي مسافة 33 عاماً.

الحكيم للبيارتة: روقوا يا شباب

تبدو القوات اللبنانية ــ «الطرف الأصغر، شعبياً» ــ ماضية في استثمار الفوائد من الشريك الجديد «تيار المستقبل». تتقاطع آراء القواتيين والمستقبليين عند كون خطاب سمير جعجع يلاقي استحساناً كبيراً في طريق الجديدة. وصار بعض الشبان البيارتة يختارون لهواتفهم نغمة «دق الخطر ع الابواب» (أحد الأناشيد العسكرية للقوات اللبنانية إبان الحرب الاهلية). تماماً كما زارت جماعات من البقاع القوات في معراب، وقالت إنها سترفع صور سمير جعجع في منطقتها، لكنه رفض، عملاً بسياسة التروي، على حد قول مصدر قواتي. فـ«الحكيم» فضل القول: روقوا يا شباب.

البيال مثلاً

يوم الثلاثاء الماضي، تجمهر عدد من الشبان على أحد أرصفة منطقة ابو سهل في الطريق الجديدة. تحت «الاترنيت»، يتابعون خطبات «البيال». «روقوا وسمعوا»، صرخ احدهم بالباقين. وعلى أصوات الأراكيل، سمعوا خطاب «الحكيم». ابتسموا وصفقوا وامتدت عبارات الثناء والمديح للرجل حتى خلال إطلالة الشيخ سعد.
«ماحدن كيّل لعون غيره» يقول احدهم، «يا زلمي مسح فيهن البلاطة» يرد آخر. اما ابو احمد الذي لم يزل غير مقتنع تماماً بجعجع، فلم يستطع اخفاء علامات الرضا عن وجهه. رسالات الغرام والوئام بين الحليفين لا تنتهي. وقصص الشعارات المدوية في الشارع لا حدود لها. عقليتان مختلفتا المنشأ. لكن الامور تسير بسلاسة فائقة في البيوت وفي الشارع وفي الجامعات وانتخاباتها.
م. ع، أحد أبناء الطريق الجديدة الذين استمعوا لخطاب جعجع. يعمل الشاب في مجال الالكترونيات. يدخل موقع القوات الالكتروني ويشارك بالتعليقات. لم لا؟ هناك يستطيع الشاب البيروتي ان يفرغ كل شحنات غضبه على حزب الله وسوريا و8 آذار، وأحياناً على الشيعة. وماذا يحتاج شاب بيروتي ذهب بـ«سنّيته» الى أقصى الحدود اكثر من أن ينشرح صدره حين يرى تعليقاً لابن الطريق الجديدة في موقع القوات يقول فيه: «ان شاء الله يا رب يا ميشال عون تاخد سبعين حبة مهدئ بعد أن يسقط حليفك بشار».
الشاب الناشط الكرتونياً يقرأ تلك التعليقات، فينتشي ويقول: «احلى موقع، موقع القوات فهو متطور كل يوم، وبيعرف «ينقر» منيح على الاعدا!».
يخرج م. ع. من موقع القوات، ليدخل احدى المجموعات على الفايسبوك التي انشئت تحت شعارات تحالف القوات ــ المستقبل. وهناك كل ما يسر له القلب من اسماء وشعارات:
«ع دعساتك» مع «بتمون»… عمر وعثمان والحريري شهيد لبنان مع بشير الجميل، حيث لا يجرؤ الآخرون مع فهود الطريق الجديدة، وطبعاً الشهداء: المفتي حسن خالد ورمزي عيراني.. وهناك ايضاً ابنة شارع حمد بحجابها تحيي جسيكا التي رفعت صورة لجعجع كُتب عليها: أهلاً برب ربك. بالطبع هناك ايضا شاب آخر من الطريق الجديدة كتب: بتمون يا حكيم ولعيونك طريق الجديدة.
الجمهور البيروتي متعطش لتحقيق اي انتصار ويقبض بشدة أكبر، يوماً بعد آخر، على «سنيته». مقابل قوات منظمة حلمت في العام 1984 ان تزحل الرمال السنية من تحت السوريين. كان هذا في احدى مقالات مجلة المسيرة الخاصة بالقوات اللبنانية لروزانا اليان. وفي مقال آخر منشور في المجلة نفسها في العام 1988، كانت القوات ترى بأم العين السنّة يهمسون: سوريا باقية؟ (مقال لميرنا كرم).
في العام 2005، التقى الجمعان. تغير سنّة بيروت، لكن القوات لم تتغير. اصبح التحالف ضاربا بقوة بين الفريقين. معظم البيارتة تسرهم اطلالات جعجع. وموقع القوات ينقل لهم تاريخ زاروب الطمليس (احد احياء طريق الجديدة الفقيرة) على موقعه.
المفارقة الغريبة هي ان هذا الزاروب كان نفسه يخرج آلاف المناصرين لعبد الناصر، ومئات المقاتلين في سبيل القضية الفلسطينية.
كل ذلك، على قاعدة الحكيم: «… روقوا يا شباب».

التحالف باق.. هل من معارض؟

«نحن نحترم خيارات الناس في العاصمة، وهذه مسالة أساسية. واذا كان لدى البعض اعتراض على هذا التفاهم من عائلات بيروت، فليشكلوا حالة لتغيير هذا الواقع»، يقول المنسق الاعلامي لتيار المستقبل ايمن جزيني.
لكن لا يبدو هناك مخرج حقيقي لمن يرى هذا التحالف «مشيناً بحق اهل بيروت». يبدو من يقول ذلك اليوم كمن مر الزمن بقربه ولم يلتفت له. فالشارع البيروتي، في الظاهر على الأقل، تخطّى هذا النقاش، ودخل مرحلة مغايرة تماماً لأحلام الأفرقاء اللبنانيين.
قلة من البيروتيين لا يزالون متمسكين برأي مغاير تماماً. أحد السياسيين البيارتة، (مرشح سابق للانتخابات النيابية)، يقدم طرحاً يتوافق وقناعاته تماماً. فبعد بلوغ تحالف القوات ــ المستقبل 6 سنوات، يرى الرجل أن الشرايين الاساسية لتلك العاصمة هي: العروبة ــ القضية الفلسطينية ــ والسنة التي تمثل اغلبية سكان العاصمة.
يضيف أنه «فيما يتجه المشهد الاقليمي العام لينبض الشريان «السني» مع تنامي الصراع العربي ــ الايراني وبروز الحركات الاسلامية في الثورات، بالاضافة الى الممارسات الخاطئة من خصوم تيار المستقبل، يبدو ان القضية الفلسطينية والعروبة بطبيعة الحال متجمدتان. لكن، عند اول منعطف في المشهد الكبير، نشهد فيه تصاعداً للسهمين المذكورين، ستلفظ بيروت ذلك التحالف، لأن العروبة والقضية الفلسطينية هما مكونان تاريخيان لعائلات بيروت. وبحال تقدمهما على الانتماء المذهبي، يسقط شعار «لبنان اولاً» ولن تجد القوات اللبنانية حليفاً حقيقياً تحت ذريعته».

العودة بالزفة

صحيح أن وليد قد ودّع الفدائيين عام 82 مع والده، وهو اليوم مستقبلي ــ قواتي. صحيح ان زاروب الطمليس حارب القوات، لكنه صار اليوم «معلماً تاريخياً» على موقعها الالكتروني. صحيح ان البيارتة طالبوا يوماً بحقيقة اغتيال الرئيس رشيد كرامي، لكنهم اليوم بأغلبهم مع القوات يطالبون بحقيقة من اغتال الرئيس رفيق الحريري.
صحيح انهم اختلفوا يوماً، لكن تحالفهم أضحى راسخاً بقوة في اواسط الشباب البيروتي. ومن شاهد القوات اللبنانية تخرج ببزاتها العسكرية من مخيمي صبرا وشاتيلا بعد المجزرة الشهيرة عام 1982، قد يعيش يوماً ليرى فيه قائدها يدخل المنطقة بزفة كبرى، محمولاً على الاكتاف امام مداخل المخيمين، ودائماً على قاعدة الحكيم: «بدكن تروقوا يا شباب». 

السابق
بني غانتس: السنة المقبلة حاسمة لاسرائيل.. وندرس تهديدات نصر الله
التالي
حزب الله يشرع في خطة مواجهة جديدة