ابق على قلوبهم

لوزير العمل شربل نحاس الحق، كل الحقّ، اليوم بالاستقالة، لا لأن مشروعاً من مشاريعه لكسر حلقة النهب المنظمة في البلاد قد فشل في الوصول الى نهايته السعيدة، بل لأنه رجل لم يتوقف عن خوض المعارك للمصلحة العامة منذ اتى وزيراً في حكومة سعد الحريري بُعيد الانتخابات النيابية الاخيرة.
ولشربل نحاس الحق في أن يرى أن المرحلة الوزارية الحالية اصعب من تلك التي كان يخوض فيها المعركة مع خصم في السياسة وخصم في مصالح الناس، وجهة ملوثة من رأسها الى اخمص قدميها بالفساد، بينما اليوم تمت معاقبته بتسليمه وزارة العمل، وتهميش دوره في مجلس الوزراء، والتخلي عنه من قبل حلفائه سياسياً، وتركه ليخوض اشرس المعارك ضد كل مافيات المال في البلاد وحيداً.
لن يعتب احد على نحاس إن قال لنا إنه تعب، وسئم، وملّ، وإن البلاد تقودها مافيات متحالفة مع قادة الطوائف، وإن المصالح المالية عابرة للمذاهب، وإن الناس انفسهم يفضّلون التخلي عن حقوقهم إذا شعروا بأن زعماء الطوائف قد يغضبون منهم.
ويمكن تفهّم نحاس تماماً إذا عتب على من بقي من قوى اليسار، والنقابات، دون ان تمسسهم فضيلة الفساد في بلاد الارز، بل غرقوا في ألعاب الصراع الداخلي، والتوازن للحفاظ على المواقع، والخوف من غضبة آباء الطوائف ورعاتها. فتركوا المعارك النقابية، ونسوا في غمرة الفزعة والنزاعات الداخلية العبثية، ان يقفوا الى جانب مصالح من يمثلون، او يدّعون أنهم يمثلون.ويمكن ان نرى في عيني شربل نحاس وجلسته وهو ينفث دخان سيجارته بقوة، اللوم على اصحاب الفكر والرأي، اولئك الذين انحازوا الى الثورة السورية منذ عشرة اشهر، ونسوا ان معركة تخاض في لبنان، ومنذ اربعة اشهر، لضرب مسارٍ عمره اكثر من خمسة عشر عاماً، نهَبَ البلاد، ووضعَ العمال والموظفين موضع المسؤولية عن كل العهر الاقتصادي الذي ارتكب، والذي لم يُنتج إعماراً ولا اقتصاداً متوازناً، ولا نموّاً ولا تنمية، بل تحوّل الى اموال في جيوب اصحاب المصارف وشركائهم الساسة. بينما المثقفون والكتّاب والناشطون السياسيون ينظرون نحو سوريا، ويكتبون كل يوم في مديح الثورة، ويتركون ناسهم وبلادهم نهباً لحكومة يعلم الله وحده كيف يمكن وصفها، ولأصحاب مصارف يهدّدون بالعصيان المدني إذا أقرّت زيادة على الاجور تطابق نسب التضخم.
لا يمكن الا احترام نحاس إذ رأى أنه آن الأوان له للانسحاب، لأن كل يوم في وزارته الحالية، كما في كل يوم في وزارته السابقة، يمكن ان يكون يومه الأخير، تماماً كما حصل حين حاول منع فرع المعلومات وقوى الامن الداخلي من السيطرة على الطابق الثاني من مبنى الاتصالات في المتحف، فكاد يتعرض للقتل. كذلك كل يوم في عمله الوزاري هو يوم مشحون بالمشكلات، التي عليه ان يخوضها بمفرده، من دون رفاقه في التيار الوطني الحر، ومن دون حلفاء التيار.

إلا انه هو نفسه يعلم انه لم يكن بامكانه، ووحده، اجتراح المعجزات، بل ربما قد ادى اكثر مما هو متوقع منه، وهو الذي يعلم أن تحقيق مطلب على صلة بالمصالح المباشرة للناس لن يكون إلا اذا تحرك الناس، بأطرهم الممثلة لهم، من نقابات واحزاب سياسية، وأن هذه النقابات والاحزاب السياسية اليوم شبه مشلولة، بينما سيطرت المافيات المالية، واصحاب الشركات والمصالح في البلاد، على الجزء الاكبر من النقابات، وربطت نفسها بالاحزاب السياسية، فنامت نواطير مصر عن ثعالبها.
وهو يعلم أنه منذ ان تمت معاقبته بإرساله الى وزارة العمل، كان وحيداً، وأن القوى السياسية التي يواجهها قادرة على تحويله الى حالة معزولة، وأنّ التفاهمات على طاولات العشاء ستطيح أي مشروع اصلاحي حقيقي، ويتم بعدها توزيع المكاسب: مشروع ري هنا، وتلزيمات هناك، وبعض القرارات ببضعة ملايين من الدولارات توزعها الحكومة على الخاصة من الناس.

الا أن وجود شخص كشربل نحاس في مجلس الوزراء يبقى مفيداً، فمنذ مجيئه في حكومة سعد الحريري حتى عودته في حكومة نجيب ميقاتي، وهو مصدر قلق حقيقي للقيمين على النهب العام. يمكن القول انّ من الصعب مرور مشروع توسيع ساقية في قرية من دون ان يتعرض لنقاش تفصيلي. على الاقل هناك من يعترض وهناك من يثير في نفوس الوزراء القلق. وعلى الاقل ثمة من يمنع الوزراء من تمثيل مصالح فئة ثرية ومشبوهة وفاسدة في البلاد من دون ان يتعرضو لبعض النقاش على طاولة مجلسهم.
لو تمكن احد من مافيات البلاد المالية من اكتشاف مخالفة صريحة لشربل نحاس لكان يحق له الشعور بالإحباط، ولطالبناه بالاستقالة، ولكان اساساً قد وافق شن طبقة، وانضم الى شلة الانس في الحكومة وفي الحياة السياسية العامة. لكن، بعد معركة اربعة اشهر لتصحيح المخالفات وتخفيف النهب من جيب العمال، وبعد معاركه في وزارة الاتصالات، لا يمكن إلّا ان نقول لنحاس: ابق على قلوبهم.  

السابق
ماذا يجري في تيار المستقبل؟
التالي
بينت:موقف لبنان من سوريا حكيم