عن البناية_الوطن وغربان الموت 

من قال إنها بناية في حيّ من العاصمة؟ من قال إنهم سبعة وعشرون فقط؟ تعالوا نرَهم بعين الروح. تعالوا نمعن النظر أكثر، وعن كثب. ألا نتماهى كلنا في ضحية من الضحايا؟ ألم نحسّ جميعاً بوطء الحجارة على صدورنا؟ أوليسوا في تضحيتهم، كأنهم تجسيد لكل مساحتنا، أو افتداء لكل جغرافيتنا المتعددة، وحياتنا الواحدة، وموتنا المأساوي اليومي المحتوم؟ أليست صورة مصغرة ملخصة لشعب كامل، في وطن لم يكتمل قط؟
مثل بناية عطا الله هو لبنان. بناء قديم متداعٍ، بسقوف لم يصهرها حديد، وجدران رملية، ونوافذ مخلعة مشرعة على كل مطر وخطر. مثلها هو، في محيط أكلته الفوضى، وسَرْطنه الجشع. فتقنَّع بالحداثة ليعلو فوقنا، ويحجب الشمس والنور والهواء وسمْع الأنين.

ومثل سكان البناية كل شعبنا. آخر المعذبين في أرضنا، آخر الناس المعترين. بين صاحب إيمان لم يكفر بعد، بداعي لاهوت متموضِع، وبين معدم مدقع سُدَّت في وجهه أبواب الهرب، وبين من فاتته السنون، فلبث مستكيناً قانعاً بسأمه تكاليف الحياة.
كلنا في تلك البناية. كل من بقي منا محشور بين تلك الجدران. كل شعبنا منكوب تحت ذلك السقف الواطئ الخانق. مثلهم نحن، قلة باقية، معظمنا اجتاز هضبة العمر، وأطل على خريف كئيب، يكذب عليه وعلى نفسه، فيلونه بأوهام ربيع، وسرابات زهر اللوز في شيب الرأس. مثلهم نحن، غالبية نسوية، رفضن أن يكون الوطن فندقاً، أو أن يصير البيت محطة بين قطارين. فيما الذكور هجُّوا في أصقاع الأرض، بحثاً عن صيد حياة، يقطعه خبر عبور الأهل إلى دنيا غير مأهولة. مثلهم نحن، آخر البؤساء، الذين لم يُفتح لهم باب هجرة، والذين لم ينعتقوا برمي النفوس والأجساد في بطن حوت أو بحر، والذين لم يلمسوا سلطة يوماً، ولا مروا حتى قربها، ليصيروا من سكان القصور المحصنة والدور المسورة. مثلنا كلنا هم، آخر أبناء البيوت الفقيرة المتداعية في الوطن الصغير المشلّع. يتقاسمون ذلّه وهوانه والموات، مع مسحوقين مثلهم، تقاطروا من آخر دول العالم السفلي، عمالٌ عبيدٌ لغريزة بقائهم، ارتضوا أن نغمس معهم لقمتنا بالعرق، فإذا بها مخضبة بالدم.
كل شعبنا مثل هؤلاء السكان المنكوبين، كل وطننا مثل بناية عطا الله. 
هاكم ثوب آن ماري الأبيض، حفظته ليوم العرس. وكان عظيماً. كأنه عرس كل عذارانا. نسكب في دمعه كل عذاباتنا وكل وجعنا وقدرنا الأسود. هاكم صورة جهاد وفرحات وشربل، قضوا وهم يحملون والدهم الراثي، برَكة البيت الهابط… كأنهم روح شعب، أو ما بقي منه، في طهره ونبله، في تضحيته ومعاناته، في صبره وجلَده، يحمل صلبان الأرض على جلجلة مزلزلة، ولا يخلص…
من قال إنها بناية في حيّ؟؟ إنه شعب كامل تحت سقف وطن مهدد بالسقوط. ولا صوت مسموع إلا رحمتك يا الله، لأن رحمتك وحدها تجوز للأموات، كما للأحياء، كما للذين باتوا بين المنزلتين، بمنزل أو من دون منزل.

من ثوابت الموت وتوابعه الراسخة، غربان ونعيق. يندهها عزرائيل من آخر الظلمات، فتحضر فوراً. كأنها تحمله بأجنحتها السوداء، كأنها تنهب الروح الصاعدة بصوتها المقلوب شؤماً. هذا في غابات الأرض. أما في أدغال العهر والفجور، فغربان موتنا سياسيون، ونعيقهم تصاريح متلفزة، لا يُفهم منها إلا رائحة الموت ولونه، وشهيتهم لجثاميننا موتى، كأنهم لا يكفيهم نهشنا ونحن أحياء. 

السابق
المرعبي: مطار الشهيد رينيه معوض نفط عكار وسنناضل لتشغيله
التالي
مصالحة حزبية داخلية