السفير البابوي: لبنان بخبرته في العيش المشترك يمكن اعتباره مرجعا ملهما للمنطقة

كان السفير البابوي المونسنيور كاتشيا ألقى بصفته عميدا للسلك الديبلوماسي المعتمد في لبنان الكلمة الآتية:

"فخامة الرئيس، بمزيد من الفرح، نجتمع هنا مجددا للاحتفال بتقليد سعيد، هو تبادل التهاني الذي يتيح للسلك الديبلوماسي، ولي شخصيا أن نعبر لفخامتكم عن أطيب التمنيات مع حلول هذه السنة الجديدة.
يشرفني أيضا أن أنقل الى فخامتكم تمنيات قداسة البابا بنيديكتوس السادس عشر، الذي يحمل بلادكم في قلبه دائما، خصوصا انه، في هذه السنة، جرى تدشين التمثال الجميل للقديس مارون في الفاتيكان، في حضور فخامتكم، وجرى انتخاب البطريرك الماروني الجديد. وأتشرف أن أنقل الى فخامتكم تمنيات رؤساء الدول والسلطات والشعوب، الذين نحظى، نحن السفراء، بتمثيلهم في بلدكم العزيز.

خلال السنة المنصرمة، قدم 24 سفيرا أوراق اعتمادهم لفخامتكم، منهم 19 سفيرا مقيما. أود، في المناسبة، أن أورد ما قاله أحد زملائي، معبرا بصورة جيدة عن التقدير العام الذي يكنه السلك الديبلوماسي لبلدكم. لقد قال، في أثناء زيارته الوداعية: "أقدر معنى الضيافة اللبنانية، والتنوع الثقافي في لبنان، وقدرته على تجاوز المحن. ثمة أسباب عديدة تجعلنا نحبه: جمال مناظره الطبيعية، مناخه، هناءة العيش فيه، غِناه الإنساني وتنوع طوائفه الثماني عشرة التي تجعل منه نموذجا مميزا للعيش المشترك بين الأقليات، النوعية العالية لرصيده الإنساني، روحيته المشجعة على الإقدام والمغامرة، نبوغه الخلاق في مجال الفنون، مرونة شعبه المدهشة وقدرة هذا البلد على الانطلاق من جديد.

أود أولا أن أوسع النظرة في الإطار الدولي، بحيث أقرت، في نهاية عام 2011، عضوية لبنان غير الدائمة في مجلس الأمن الدولي. إنه مركز شرف هذا البلد الصغير، صاحب الرسالة الشاملة، ليس لانتشار العديد من أبنائه في العالم كله، بل للدور الذي اداه في وضع الإعلان الدولي لشرعة حقوق الإنسان. أشير إلى أنه، في هذه الفترة، قدم الطلب الرسمي للاعتراف بفلسطين دولة عضوا في الأمم المتحدة. إنها خطوة تاريخية في مسار محاولة إيجاد مخرج نهائي للمسألة التي عرضها القرار 181 الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة، عام 1947، والذي وضع الأساس القانوني لوجود دولتين. نعلم جيدا، خصوصا هنا، أن هذه المسألة تبقى محورية، في انتظار حل عادل ونهائي، يمكن أن يؤدي إلى سلام دائم في المنطقة كلها.

في هذا الإطار، أود أن أهنئ بلدكم لمساهمته في وضع القرارات الدولية، التي تعنيه عن قرب، موضع التنفيذ، خصوصا ما يتعلق بمهمات القوات الدولية التابعة للأمم المتحدة (قوات الطوارئ الدولية المتعددة الجنسيات)، وأيضا المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. إن قوة أي بلد، كبيرا كان او صغيرا، تبقى مرتكزة على العدالة والحقيقة والحق الذي يسعى إلى تطبيقه ضمن حدوده الخاصة، كما في المؤسسات المختلفة الإقليمية التي تضم بلدانًا متعددة، لتشمل كامل المجموعة الدولية بروح الحوار والمشاركة.
إن السنة المنصرمة، التي تميزت بما يسمى "الربيع العربي"، أبرزت بشكل غير متوقع، ضرورة وجود هذه العدالة والحرية في بلدان عديدة، محدثة تغيرات كبرى، لم تبلغ بعد نهاية تطورها. في هذا الموضوع، يمكن التأكيد أن الأسباب العميقة لرياح التجديد أصبحت جزءا من التاريخ الغني لهذا البلد، الذي يشهد حرية حقيقية، يرافقها اعتبار عميق لمختلف مكونات المجتمع التي يعترف بها الدستور رسميا ويحترمها. بهذا المعنى، ومع أخذ تنوع كل بلد في الاعتبار، فإن لبنان، بدستوره المرتكز على حرية المعتقد، وبخبرته في العيش المشترك، يمكن اعتباره مرجعا ملهما للمنطقة.

إن العيش المشترك والقدرة على الحوار بين جميع مكونات المجتمع يظهران أن التغيرات الضرورية والمستدامة تتحقق بقوة الأفكار وبالتفاهم، اكثر مما تتحقق بالعنف، وهو أمر رفضه هذا البلد منذ زمن. إن العنف الذي، بمختلف أشكال الإرهاب، لم ينقطع عن تهديد بلدان عديدة في العالم، مع أن السنة المنصرمة شهدت اختفاء أحد المطلوبين الإيديولوجيين، الذي لم يتمكن، طوال السنوات الأخيرة، من أن يضم إلى أساليبه ويقنع حتى الذين يشاركونه بعض ادعاءاته ومطالبه. العنف قوة هدامة، والبناء يحتاج إلى عدالة ومصالحة وسلام.

إذا نظرنا إلى الأزمة الاقتصادية والمالية الخطيرة التي هزت بلدانا عديدة في العالم ولا تزال تشغلها، لا يمكننا إلا أن نسر لكون لبنان تمكن من أن يجنب نفسه هذا الوضع الخطير ويوفر الاطمئنان والثقة للأسواق العالمية. إنها علامة أخرى من خصوصية هذا البلد، يمكن البناء عليها من أجل مستقبل اكثر ازدهارا.

لهذه الأسباب جميعها، نأمل أن تكون الزيارة التي قام بها الأمين العام للأمم المتحدة، السيد بان كي مون، معبرة جدًا. فقد أشار الى فائدة لبنان، وإلى دوره والمكانة التي يحتلها في الأسرة الدولية. من جهة أخرى ، كنتم أنتم، يا فخامة الرئيس، المحفز في الأمم المتحدة، لجعل هذا البلد "رسالة"، ومركزًا عالميًا لحوار الديانات والثقافات والحضارات في العالم.

بالنسبة إلى السنة التي نشهد بدايتها، نتمنى، في ظل إدارتكم الحكيمة والصبورة، أن يتمكن هذا البلد من مواصلة نموه، في مناخ من الحوار والاحترام، للمحافظة على وحدته، التي تضمنها دولة سيدة مستقلة، واعية لما يجري حولها، ولكنها غير منخرطة في "معارك" ليست معاركها.

للمحافظة على هذه الروحية، من المهم االاستمرار بجهد مضاعف، في تنشئة الأجيال الجديدة. إن الشبيبة تشكل جزءا كبيرا من سكان لبنان، وكما ذكر قداسة البابا بنيديكتوس السادس عشر جميع سلطات العالم، في رسالته في مناسبة اليوم العالمي للسلام، بوجوب "تنشئة الشبيبة على العدالة والسلام".أرغب أن أستعيد مقطعا من هذه الرسالة: "في عالمنا، حيث قيمة الشخص البشري وحقوقه – بالرغم من إعلانات النيات الحسنة- مهددة بجدية من الميل المعمم للعودة حصريا إلى المعايير النفعية، والكسب والامتلاك، من المهم عدم فصل مفهوم العدالة عن جذوره السامية. ليست العدالة مجرد عرف بشري، لأن ما هو عادل ليس محصورا أصلا بالشريعة الإيجابية، بل بالهوية العميقة للكائن البشري.
يا فخامة الرئيس، في هذه السنة تدخلون في النصف الثاني من ولايتكم، وبالنظر إلى ما حققتموه في السنوات الثلاث المنصرمة، لا يمكننا إلا أن نشكر فخامتكم لأنكم، حتى في الأوقات الأكثر اضطرابا، عرفتم مع معاونيكم، أن توفروا فترة من السلام، بما فيها الاستحقاقات الانتخابية، النيابية والبلدية، التي جرت بصورة ديموقراطية هادئة، كما حصل تبديل للحكومة. إن التمكن من المحافظة على السلام ليس من أبسط الإنجازات، فعليه يمكن استمرار البناء في شتى المجالات الضرورية من أجل إنماء متكامل للبلد.
نتمنى لكم، يا فخامة الرئيس ولعائلتكم، ولمؤسسات الجمهورية، ولأعضاء الحكومة، ومن خلالكم لجميع الشعب اللبناني، سنة مباركة.
ليبارك الله لبنان"  

السابق
قبلان: حلم تنفيذ مشروع الليطاني خطوة موفقة
التالي
سليمان: نلتزم القرارات الدولية لا سيما تلك المتعلقة بالمحكمة الخاصة بلبنان