مقابل مؤامرتهم أين مؤامرتنا؟

المؤامرة التي تضرب سوريا لا تقتصر على سوريا وبلاد الشام، إنما تضرب الحقل الاقليمي بأسره. فالتحول الذي أدى إلى ولادة الثورات العربية هو تحول إقليمي في سياق متغيرات «المنظومة الدولية»، وعلى هذا المستوى الاقليمي الجيوـ سياسي تتآمر قوى «المنظومة الدولية» وتوابعها لإعادة مجرى التحول ليصب في طاحونتها. والمؤامرة على سوريا هي حلقة في سلسلة تشمل مصر وتونس واليمن والبحرين وفلسطين والمقاومة وإيران… لكنها تأخذ في كل منحى تنحو إليه شكل الوعاء الذي تصب فيه. وهي ليست سرية في الكواليس الخلفية كمؤامرات القصور والانقلابات العسكرية، بل تخطيط في مشروع استراتيجي ـ سياسي ـ اقتصادي ـ ثقافي ـ عسكري يتصوره المتضررون فاجعة، ويروّجه المستفيدون بتسفيه «نظرية المؤامرة». إنما لا فعل سياسياً من دون تآمر قوى مستفيدة، تعمل على استغلال ضعف خصومها وعلى التحكم بالوقائع لصالحها، لا سيما وقت التحولات التي تنذر بتغيير الستاتيكو. ولا مواجهة لهذه المؤامرة من دون مؤامرة (التبصر في الأمر) قوى متضررة تعمل على تجاوز ضعفها وعلى تغيير الوقائع لصالحها، بل على الإمساك بزمام المبادرة والانتقال من الدفاع إلى الهجوم.

ومؤامرة قوى «المنظومة الدولية» وتوابعها على البلاد العربية، هي فرع من مؤامرة أوسع تسعى لإنقاذ نموذج نيوليبرالي معولم تهدده أزمات الانحدار بمقتل. وهي أزمات لا تنحصر بأزمات مالية متتالية، إنما تعبّر هذه الأزمات المالية عن أزمات أشد وطأة في استراتيجياتها وسياساتها واقتصادها وثقافاتها… وصولا إلى هوياتها الوطنية. فالنموذج الذي سلّح دول هذه «المنظومة الدولية» بالقدرة على فرض التبعية لاستراتيجياتها وسياساتها واقتصادها وفكرها، لم يعد يستند على غير الايديولوجيا قوة جاذبة. فقد دلت مجرفة العولمة الاقتصادية النيوليبرالية في أقل من عقدين، كما دلت مآسي احترار المناخ وتبديد الطاقة والثروات الطبيعية غير المتجددة، ان الازدهار الذي ارتكز إليه ألق نموذج الدول الصناعية هو مجرد ديون إيكولوجية. وهذه الديون هي ثروة إنسانية مشتركة منقولة من الأجيال السابقة إلى الأجيال اللاحقة إرثاً عاماً، لكن نموذج ازدهار ثلث البشرية بددها في فترة وجيزة من حساب ثلثي البشرية (والأجيال اللاحقة) التي كانت تحفظ أسباب حياتها وعمرانها في بيئتها الطبيعية. وهذا الأمر هو متغير جديد لم تعرفه الإنسانية ولا المنظومة الرأسمالية سابقاً. ولم تعرفه ايضا المشاريع الاشتراكية المعادية للرأسمالية التي تأخذ بزيادة الانتاجية والتنمية الاقتصادية من أجل «العدالة الاجتماعية» في توزيع الثروة (سواء بين الدول الصناعية والبلدان غير الصناعية أم بين القوى الاجتماعية في داخل مجتمعات الدول).

ان الثروة الدائمة هي الثروة المتجددة في الأرض والبيئة والموارد الطبيعية، لا الثروة غير المتجددة في ازدهار المال والصناعات العملاقة ورفاهية الاستهلاك المحموم بديون إيكولوجية. وهذا المتغير الجديد الذي أصاب منظومة النموذج الصناعي بسرطان الاستهلاك البذيء لزيادة الانتاجية ومعدلات النمو في الأسواق الدولية، ليس متغيرا مطلبياً ـ اجتماعيا بمعنى تحسين الأجور والرعاية الاجتماعية وأزمة البطالة والجوع، فحسب، بل هو متغير أصاب النموذج نفسه بآفة فقدان المناعة ولا ينقذه غير إعادة الاستعمار على كعب أخيل إيديولوجيا الحريات الفردية.

ففي أقل من عقدين انهار الاقتصاد النيوليبرالي المعولم وبات محكوماً بزيادة الشيء من الشيء نفسه، سواء في تسهيل حرية أعمال الرساميل العملاقة أم في زيادة تهميش حقوق الغالبية الساحقة من سكان الأرض. وإلى جانب ذلك فقدت دول «المنظومة الدولية» القدرة على إعادة تجديد نموذجها بالحروب إذ باتت تداعيات الحروب أخطر عليها من الحروب. وفقدت كذلك القدرة على الإمساك بزمام المبادرة في حل الأزمات السياسية وأصبحت محكومة بإدارة الأزمات من دون أفق. لقد فقدت القدرة وقوة الجذب معاً وبات نموذجها يعيش أساساً على الثقة العمياء بنموذج منهار، لم يعد له غير الايديولوجيا مرتكزاً جاذباً. وفي مقدمة هذه الايديولوجية الجاذبة مسألة تداول السلطة والحريات المدنية والسياسية، وهي حقوق ديموقراطية بطبيعة الحال، لكنها ليست أسساً مؤسسة للدولة، ولا أسساً مؤسسة للسلطة. فالسلطة تتأسس بطبيعتها على القهر والقمع مهما كانت أشكال الحكم ديموقراطية. وبعد الإقرار بطبيعتها القمعية مهما كان شكل الحكم ديموقراطياً، يمكن تقييدها بحقوق الإنسان والحريات المدنية والسياسية إنما من دون وهم بأن هذه الحقوق التي تقيّد السلطة تلغي تسلطها. لكن الأسس المؤسسة للدولة الديموقراطية، لا الأسس المؤسسة للسلطة الديموقراطية، هي التي تعطل تسلط السلطة إلى حد بعيد. فهي أسس ثابتة تعطل مصالح السلطة ونفوذها في الدولة.

وتعطله أساساً عبر دور الدولة الناظم للحقوق الإنسانية (حق العمل والمأوى والتعليم والصحة والغذاء…)، لا الناظم لحقوق الإنسان. وتعطله عبر دور الدولة الناظم لمصلحة الجماعة القومية في السياسات الدفاعية والخارجية والاقتصادية ـ الاجتماعية. وهذه المصلحة العليا هي أساساً في القدرة على الردع إن لم تكن القدرة على التوسع العسكري، وفي القدرة على تبادل النفوذ إن لم تكن القدرة على توسع النفوذ، وفي القدرة على بناء علاقات اقتصادية متكافئة إن لم تكن القدرة على فرض التبعية.
والحال، تنفخ دول «المنظومة الدولية» في إيديولوجيا تداول السلطة وحقوق الإنسان لأن نموذجها النيوليبرالي يتراجع عن ديموقراطية دور الدولة الناظم للحقوق الإنسانية في الدول الصناعية. ولا يسمح بدور الدولة الديموقراطية الناظم للحقوق الإنسانية والمصلحة العليا في البلدان التابعة. فحين تصل أزمة النموذج إلى ذروتها، كما حدث مؤخراً في اليونان وإيطاليا، لا يملك النموذج غير تداول السلطة وتغيير الحكومة للعودة إلى المربع الأول. وحين وصلت أزمة الحقوق الإنسانية وأزمة فراغ المصلحة العليا (التبعية الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية)، فضلا عن أزمة الحريات، إلى ثورة في تونس ومصر، بدأت ايديولوجيا تداول السلطة العمل لإعادتها إلى المربع الأول. ففي هذين البلدين، كما هي الحال في بقية البلدان العربية، يشتد الصراع على السلطة وحول الحريات المدنية بين كل أطياف الطامعين بالسلطة (إسلاميين وليبراليين وقوميين ويساريين) لكن في ظل شبه إجماع على تغييب الحقوق الإنسانية «الفئوية» وعلى تغييب تبعية المصلحة العليا في السياسات الخارجية والدفاعية والاقتصادية ـ الاجتماعية.
 لقد طغت على هذه القوى السياسية والنخبة الثقافية ايديولوجيا «المنظومة الدولية» وبسطت سيطرتها وباتت قوة جذب آحادية في خضم ذروة أزمات النموذج النيوليبرالي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والديموقراطي وصولاً إلى الأزمات الأخلاقية. وقد سخّرت لإشاعة هذه الايديولوجية، منذ منتصف التسعينيات، جيشاً عرمرماً من مراكز الدراسات والنخب الثقافية وتلامذة خبراء المؤسسات الدولية ووسائل الإعلام التسويقية لنشر ثقافة سياسية تستند إلى الايديولوجيا الليبرالية على مستويين:
أ ـ ما يلبي طموح المعارضات السياسية والنخب الثقافية في الحريات المدنية والسياسية للوصول إلى السلطة. وما يلبي ايضا مصالحها، إلا أقل قليلها، في النفوذ والمال والأعمال ضمن إطار التبعية إلى نموذج «المنظومة الدولية».
ب ـ ما يخرّب العقول ويُفسد السلوك الجمعي في إلغاء القطاع العام وكل ما هو عمومي وتعاوني وتضامني، وفي إذكاء كل ما هو خاص فردي وتنافسي.

لقد خرّبت هذه الثقافة سلّم القيم الجمعية، لكنها خرّبت ايضا العقل السياسي العام. فالمقولة الخرافية التي أشاعها مثقفو علاقة الدولة «بمواطنين أفراد أحرار» تكاد تصبح ثقافة عامة في العالم العربي لا سيما بين الشباب، وذلك بدعوى إلغاء وساطة الجماعات العصبية بين الدولة والمواطنين، بينما تستهدف مقولة «المواطنين الأفراد الأحرار» إلغاء الجماعة غير العصبية تحديداً. فهي تستهدف إلغاء الجماعة القومية أساساً والجماعات الاجتماعية «الفئوية" تاليا. أي إلغاء دور الدولة الناظم لمصالح الأمة والناظم للحقوق الإنسانية. وتستهدف في المقابل، على عكس ما يشيع مثقفو «المواطنين الأفراد»، تعزيز الجماعات العصبية في سياق الحريات المدنية والسياسية. فالحريات المدنية تعزز بطبيعتها نفوذ الجماعات الطائفية والإثنية والقومية في السلطة. ولا يحد من عصبيتها غير دور الدولة الناظم لمصلحة الجماعة الوطنية والناظم لمصالح الجماعات الاجتماعية.

والمؤامرة أساسها مشروع استراتيجي متكامل يستهدف إلغاء دور الدولة، بدعوى ان الأمة لا حاجات جامعة عليا لها، كما ان الجماعات الاجتماعية لا حقوق إنسانية لها. وان الأفراد فقط لهم حاجات وحقوق توفرها لهم الحريات المدنية والسياسية، وتشبعها حرية الاستهلاك والمنافسة في السوق الحرة التي تنظم حاجاتهم أفضل من الدولة. وهذا المشروع الاستراتيجي ليس اقتصاديا فحسب بل هو سياسي أيضاً تتفرع منه «استراتيجية سلام» ونبذ العنف من طرف واحد. وكذلك أسطورة «حل النزاعات على طاولة المفاوضات»، وكل ما يعزز الاعتقاد بأن الخضوع إلى الاحتلال الإسرائيلي وعنف دول ومؤسسات «المنظومة الدولية» فضيلة ما بعدها فضيلة. ويتفرع منه بموازاة ذلك، الاعتقاد بأن كل بلد يستطيع ان يحقق كل طموحات «أفراده الأحرار» بمعزل عن الحقل الاقليمي إذا اهتم بنفسه «أولاً» وإذا أحسن الاتكال على التبعية إلى نموذج «المنظومة الدولية». وبعد ذلك لا ضير ان يتصارع على السلطة إسلاميون وعلمانيون ويساريون وقوميون، طالما يتصارعون في إطار المحافظة على «الستاتيكو» الذي يضمن استمرار التبعية إلى نموذج «المنظومة الدولية». ولا ضير كذلك ان يؤدي هذا الصراع إلى احتراب العصبيات إلى نشوء «دول قومية» جديدة من الجماعات الطائفية والإثنية والعرقية، بل على العكس ينبغي ان تضمن الحريات المدنية والسياسية حق كل جماعة عصبية بإنشاء «دولة قومية» ينعم أفرادها بالسلطة وبحرية التنافس (الاحتراب) لإشباع حاجاتهم.

ولا مواجهة لهذه المؤامرة من دون مؤامرة أساسها مشروع استراتيجي بديل، يستهدف تغيير «الستاتيكو» وتغيير التبعية إلى نموذج «المنظومة الدولية» في الفكر والسياسة والاقتصاد… وفي الجغرافيا ـ السياسية أيضاً. فدول «المنظومة الدولية» لم تعد تملك غير ايديولوجيا تداول السلطة وحقوق الإنسان قوة جاذبة لإنقاذ نموذجها عبر اعادة الاستعمار. وفي مواجهة هذه الايديولوجيا لا مناص من تحويلها من ايديولوجيا كعب آخيل، إلى حقوق ديموقراطية لتقييد قهر السلطة وتسلط اجهزتها الأمنية. انما في سياق بناء دور الدولة الناظم لمصالح الجماعة القومية ومصالح الجماعات الاجتماعية «الفئوية». ولا مصالح عليا للجماعة القومية من دون تفكيك التبعية إلى نموذج «المنظومة الدولية» في ما يسمى «استراتيجية السلام». وفي أسطورة اهتمام كل بلد في شؤونه الداخلية «أولاً». وفي ما يسمى «بالعمل العربي المشترك» في جامعة الدول العربية. وفي التبعية إلى السوق الدولية في حرية التجارة والسوق والاستثمار الاجنبي المباشر. ولا مصالح قومية عليا من دون مصالح وطموحات الجماعات الاجتماعية «الفئوية» من مزارعين وأجراء وعاطلين من العمل وشباب… متضررين من نموذج التبعية ومن القوى المستفيدة من هذه التبعية في السلطة.

المؤامرة ليست على سوريا وحدها. هي مؤامرة على تونس ومصر واليمن وليبيا وعلى فلسطين والمقاومة وإيران وباقي البلدان العربية. لكن محورها سوريا حيث تتلاقى فلسطين والمقاومة والعراق والأردن وإيران ولبنان، وحيث تنعكس على الحقل الإقليمي برمته. ولا ينكسر هذا المحور من دون مؤامرة في مشروع يعتمد على التحولات الثورية العربية وعلى القوى المتضررة من مؤامرة «المنظومة الدولية» وتوابعها. ففي مقابل مؤامرتهم لإنقاذ النموذج المنهار، إما ان ننجح بمؤامرتنا أو ينجحون بمؤامرتهم؟ 

السابق
حزب الله نفى الاتهامات الاميركية : محاولة لاستهداف المقاومة وتشويه صورتها
التالي
صور الرسمية: بين النجاح والتعثر