حمارة المرجع

1- أخبرنا المؤرخون أن أحد كبار علماء أصفهان في العهد الصفوي وبسبب علاقته الوثيقة مع الشاه والغطاء الذي شكله له (بعلمه) وسطوته، كاد أن يساوي ذلك الشاه في مظاهره وفي تصرفه بالمال ومطبخه الذي كانت كلفته الشهرية لا تقل عن مليون دولار بالأسعار الحالية… الى اسطبل جيش خيوله وخدمه، الخ… هذا استثناء يكاد يكون يتيماً في تاريخ علماء المسلمين خصوصا في الماضي البعيد.
أما القاعدة فإنها واسعة وهناك شواهد كثيرة عليها تحتاج الى دراسة وبحث لإعادة تشكيل المثال في وعي أجيالنا القلقة من المشهد.
وفي الصور التي نقلت الينا من النصف الأول من القرن الماضي أن المرجع الأكبر في النجف عندما بدأت سنه المتقدمة تقلل من قدرته على الذهاب الى مكان تدريسه اشتريت له حمارة برشاء، ولأن أهل النجف كانوا يحبون المرجع أحبوا حمارته وأخذوا يتبرعون بكسوتها وعلفها وأقدم بعضهم على تخضيبها بالحناء… لا داعي ولا مجال للعودة الى عهد الحمير أو الخيول او الابل ولا داعي باستحمارنا. ولا بأس بقليل من المشي بين الناس، ولا بأس بوسائل النقل الحديثة، وهذا الكلام ليس مراجعنا العظام في النجف معنيين به، ولكن بعض من هم في ظلهم او في الحوزة الواسعة، في حاجة ماسة الى قراءته والانتباه الشديد الى الألم الذي يحدثه بعض مظاهرهم في نفوس المؤمنين والسرور في نفوس المغرضين.
2- وأخبرنا التاريخ أن رسول الله (ص) كان يركب الحمار العاري بلا إكاف ويردف خلفه ويسير في الطرق حاسرا حافياً من دون حارس على كثرة الأعداء، وكان يقوم بوظيفة أهله ويقطِّع اللحم معهن ويقول خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي.

 3- وروى المؤرخون عن سلمان الفارسي أنه عندما كان والياً لعمر بن الخطاب على المدائن كان يحتطب لنفسه ويحمل الحطب على ظهره الى منزله ويصيح وهو يمر بحمله في السوق: أوسعوا الطريق لأميركم.
وكان من تواضع المظهر الى حد أن أحدهم طلب منه حمل مشترياته (المسواق) الى منزله فوافق وكاد يفعل لولا أن أحدهم اكتشف الأمر وزجر الرجل الآخر. وعندما احترقت المدائن خرج من منزله حاملاً سيفه ونطعه وركوته وهو يصيح: هكذا ينجو المخفون.
4- ما أحوجنا الى المقارنة بين حسني مبارك وسوزانه وزين العابدين بن علي وليلاه وبين سوار الذهب وسلمان لنكون على حذر لا يصل الى الجوع ولا الفساد ويكون وسطاً مقبولاً صائناً مصوناً.
5- من المفكرين والأدباء الكبار من العرب، لم يُعرف الاغراق في الترف الا في حالة احمد شوقي… أما الآخرون فكانوا اما ميسورين في حدود او اما فقراء مدقعين متعالين كالذين كان منهم وتابع اخبارهم وأحوالهم ابو حيان التوحيدي من اهل اللغة والفلسفة والأدب. كما يذكر في رسائله، أي من الذين فضلوا اكل الحشيش على خدمة السلطان بذمة واسعة ومثقوبة… ما حاول ابو حيان أن يفعله مرات عدة، لكن مزاجه لم يساعده على الاستمرار فمات بشكل غامض وقد يكون منتحرا بعدما أحرق مكتبته فوصل الينا مشرقاً متحرراً من بؤسه ونكد حياته ومزاجه.
6- كنت في مؤتمر في روما افتتحه وزير خارجية ايطاليا الحالي (فراتيني) لم أر معه أحداً.. وعندما خرج من القاعة لحقت به لأجد سيارة متوسطة الحجم فيها سائق وشرطي واحد ركبها ومضى. وتذكرت اني قبل عشرين سنة صعدت الى سيارة اجرة الى مدينة صور اللبنانية وعندما ناولت السائق اجرته رفض تسلمها وقال: بركة يا مولانا وفرصة لأنكم منذ ركبتمونا لم تعودوا تركبون سياراتنا المتواضعة.
7- هذا الجو أو السياق يذكّرني بمقتل رئيس الوزراء السويدي العظيم (أولوف بالمه) عندما كان واقفا في الصف ينتظر دوره ليشتري بطاقة دخول الى السينما (رحمه الله). ومرة كنت في قبرص فنبهني صديقي الى أن السيارة التي مرت بقربنا وليس فيها سوى شخص واحد هو سائقها، هي سيارة رئيس الجمهورية الذي يسوقها… وحده! 

السابق
جعجع امام وفد طالبي من جامعة اللويزة: انتصرنا بقوتنا وليس بقوة غيرنا
التالي
شيعي أميناً للسر في حزب جنبلاط