عزلة إسرائيل من البحر الميّت!

أعاد البحر الميت الحياة الى الاجتماع السنوي الذي يعقده في منطقة الشرق الاوسط «المنتدى الاقتصادي العالمي» المعروف تحت اسم مؤتمر دافوس.
انطلق الاجتماع السنوي للمنتدى من البحر الميت في العام 2003، وهاهو يعود اليه في 2011 كي يؤكد انه لا يزال حيّا يرزق وانه قادر على مواكبة الاحداث والتطورات ذات الطابع المصيري التي يمرّ بها الشرق الاوسط. مرّة اخرى، بدا الاردن المكان المناسب لمثل هذا النوع من الاجتماعات التي توفّر اطارا لحوار بين شخصيات سياسية واقتصادية من مختلف البلدان العربية واوروبا والولايات المتحدة والدول الاسيوية المهمة التي تمتلك الشركات الكبيرة فيها مصالح في الشرق الاوسط.
تكمن اهمية ما جرى على الضفة الاردنية من البحر الميت هذه السنة في انّ المشاركين فيه استمعوا الى اسئلة مرتبطة بمستقبل المنطقة اي بمرحلة ما بعد الربيع العربي. فالمشكلة التي ستطرح نفسها باستمرار مرتبطة اوّلا واخيرا بالاستقرار وكيفية تكريسه. ولذلك، لم يكن صدفة ان يكون العنوان العريض الذي اختاره «المنتدى الاقتصادي العالمي» لاجتماعه الاول بعد ثورات تونس ومصر وليبيا وفي ظل الثورة المستمرة في سورية والتهديد الايراني للامن العربي هو «النمو الاقتصادي وايجاد فرص العمل في العالم العربي». 

كذلك، ليس صدفة ايضا ان يكون الملك عبدالله الثاني ركز في خطاب افتتاح الاجتماع على «ان الشرق الاوسط يعاني اليوم من اعلى معدّل للبطالة بين الشباب في العالم» مشيرا الى الحاجة الى «توفير خمسة وثمانين مليون فرصة عمل جديدة تحتاجها المنطقة» في السنوات القليلة المقبلة.
كان الاجتماع الذي استضافه الاردن استثنائيا بالفعل وذلك ليس لانّه اعاد الحياة الى الاجتماع السنوي الذي يعقده مؤتمر دافوس في الشرق الاوسط فحسب، بل لانه كشف مدى عزلة اسرائيل في المنطقة ايضا. في الماضي كان الاسرائيليون، على رأسهم شمعون بيريس، يأتون بحماسة الى الضفة الاردنية من البحر الميت او الى شرم الشيخ. هذه المرة كان هناك غياب اسرائيلي كامل. لم تكن هناك رغبة لدى اي طرف عربي في الاخذ والرد مع الاسرائيليين. السبب واضح كلّ الوضوح وهو عائد الى انه لم يعد يوجد اي عربي يؤمن بالمفاوضات من اجل المفاوضات في ضوء رغبة رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو في تكريس الاحتلال ورفضه قيام دولة فلسطينية مستقلة «قابلة للحياة».


كشف اجتماع البحر الميّت كم ان اسرائيل خارج التطورات التي يشهدها الشرق الاوسط وكم كانت تتمنى لو بقي كلّ شيء على حاله في المنطقة كي تبقي بدورها على احتلالها للضفة الغربية والقدس الشرقية. لكن اجتماع البحر الميت خيّب آمالها. هناك نمط عربي جديد في التفكير عبّر عنه رئيس الوزراء الفلسطيني الدكتور سلام فيّاض الذي اكّد المضي في بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية بغض النظر عن النيّات الاسرائيلية. اما الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري الذي كانت له مداخلة خاصة في البحر الميّت، فقد ركّز بدوره على المستقبل وعلى ضرورة تكريس «العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة» مشيرا الى ان «سوء توزيع ثمار التنمية زاد التوتر بين الحاكم والمحكوم».

كان مفيدا سماع رئيس الوزراء القطري يتحدث عن التحديات التي تواجه دول المنطقة وتركيزه على «الفقر والبيئة وهجرة العقول والسياسات التعليمية». هناك مسؤولون في المنطقة يعرفون جيّدا لماذا اندلعت الثورات العربية ولماذا لا يفيد القمع في الاحتفاظ بالسلطة. هناك مسؤولون على استعداد للاعتراف بخطورة الفقر وباهمّية البرامج التعليمية المتطورة. ولذلك قال الشيخ حمد انه «آن الاوان كي تعيد الدول العربية النظر في سياساتها بما يتماشى مع تطلعات شعوبها» وقال موجّها كلامه الى الحكام العرب: «اذا قتلتم شعوبكم، ستخسرون بالتأكيد».

من يستمع الى الذين تحدثوا في اجتماع البحر الميت ير ان هناك من يريد بالفعل ربط المنطقة بكل ما هو حضاري في العالم. فالملك عبدالله الثاني لم ينس الاشارة الى ستيف جوبز احد مؤسسي «آبل» الذي رحل عنا قبل ايّام فقال: «اثبت ستيف جوبز انه في استطاعة الناس الذين يفكرون بطريقة مختلفة تغيير العالم. سوف نفتقده كثيرا، لكن الهامه باق وهذا الالهام سيدوم».

وفّر اجتماع البحر الميت فرصة للتعرف الى شخصية ليبية معتدلة هي السيد محمود جبريل رئيس المكتب التنفيذي في المجلس الوطني الانتقالي. اتخذ جبريل موقفا شجاعا حيال ما يدور في بلده. بدا واضحا انه يدرك خطورة التحديات التي تواجه ليبيا في مرحلة ما بعد معمّر القذّافي. من هذا المنطلق ركّز على اهمية جمع السلاح والمصالحة الوطنية. وقال: «يشعر الليبيون بانهم ولدوا من جديد، لكنّ مهمة اعادة الاعمار ستكون صعبة للغاية».

لعلّ الكلام عن مستقبل النفط الليبي اخطر ما قاله جبريل الذي بدا مترددا في الانضمام نهائيا الى السلطة الجديدة في ليبيا. اوضح الرجل ان النفط الليبي يمكن ان ينضب في غضون عشرين عاما، ولذلك لا بدّ من البحث منذ الآن عن موارد بديلة. هل في ليبيا ما بعد القذّافي من يفكر في ذلك، ام ان همّ الذين خلفوا القذّافي محصور الى اشعار آخر في السماح بتعدد الزوجات؟ هل في ليبيا من يفكر في تنمية الثروات البديلة… ام سيغرق البلد في فوضى السلاح؟

في كلّ الاحوال، ربما كان وزير الخارجية الاردني السيّد ناصر جوده افضل من لخّص الوضع الليبي بقوله: ان الموضوع ليس موضوع اعادة اعمار. انه موضوع اعمار البلد. فالقذّافي لم يترك شيئا كي تكون هناك عملية اعادة اعمار. المطلوب تعمير البلد انطلاقا من نقطة الصفر.
كانت الاسئلة كثيرة طوال اليومين اللذين استغرقهما اجتماع البحر الميت. الاسئلة لا توفّر حلولا، لكنها تساعد في السعي الى ذلك في هذه المرحلة الدقيقة التي يمرّ بها الشرق الاوسط…لا بدّ من خطوة اولى في رحلة الالف ميل! 

السابق
سليمان: كان الراحل مع لبنان وجيشه
التالي
خطران يتهدّدان لبنان: التمويل وأحداث سوريا