هل وحدة المعارضة السورية ضرورية؟

لقد شكلت انتفاضة الشعب السوري في الثامن عشر من شهر آذار من هذا العام نكزة قوية في رأس المعارضات السورية بجميع أطيافها أيقظتها من سباتها، لتجد نفسها أمام واقع جديد ليس لها دور فيه.

فعلى مدى عقود من السنين، ونتيجة للقمع المتواصل لها تعودت خلاله على النضالات الورقية والمكتبية، حيث تسهل المماحكات اللفظية، حتى صارت لغتها خشبية تقوم على ترداد ألفاظ بعينها وتختلف على حدود مدلولات الكلمات، تحولت المعارضات السورية إلى نوع من الأخويات تجتمع على رموز وإشارات محددة تعرف من خلالها، ولذلك لم يكن سهلا عليها مواكبة ما يجري في الشارع السوري المنتفض في سبيل حريته وكرامته، لأنها ببساطة تنتمي إلى الماضي بتفكيرها ولغتها وأدواتها.
لقد أدخل الشارع قضايا جديدة إلى حقل السياسة مثل قضايا الحرية والكرامة والديموقراطية والدولة المدنية والتعددية والعدالة وغيرها كثير، وأزاح في الوقت ذاته قضايا أخرى من أولويات اهتمامه مثل المقاومة وتحرير الأرض وممانعة المشاريع الإمبريالية وغيرها، كما ادخل وسائل سياسية جديدة إلى حقل الممارسة السياسية لتأكيد مطالبه تقوم على التظاهر السلمي، وهي جميعها قضايا ووسائل كانت غريبة عن حقل تفكير المعارضات السورية.
ومع أن الشارع في قطاره المتسارع قد بعث فيها بعض الحيوية ووجد لها شغلا جديداً من خلال القضايا التي طرحها في شعاراته، فهي بالكاد استطاعت أن تتعمشق بعربة القطار الأخيرة، وإذ نجحت في ذلك فإنها أخذت معها للأسف كل حمولتها الفكرية والسياسية وعدة شغلها القديمة. ولذلك بدلا من أن تكون قائدة للانتفاضة الشعبية، تقوم بدور عقلها السياسي المفكر، تعقلن شعاراتها وتحولها إلى رؤى سياسية وبرامج وخطط، صارت حمولة إضافية عليها.
ذلك من آثار الاستبداد في السوريين جميعاً، فالواقع السوري يتميز بتعقيدات لا مثيل لها في الدول العربية وربما في العالم، كان للمعارضة السورية منه نصيب كبير، فجعلها تتكون بما هي عليه. لقد قضى نظام البعث على مدى خمسة عقود من السنين على أية حياة سياسية طبيعية، ونشر وعمم ثقافة الخوف والتخوين حتى صارت لغة سياسية سائدة. فكل مخالف في الرأي هو خائن أو عميل، وبالتالي يستتبع القمع والسجن وحتى التصفية. إنها مدرسة في السياسة تقوم على تجفيف المجتمع من السياسة الوطنية، في مقابل إنعاش البنى الأهلية، وفتح شهيتها الغرائزية بمحفزات كثيرة، حتى صار الفساد والإفساد أسلوبا في إدارة المجتمع والضبط السياسي.
وبالعودة إلى مساعي المعارضات السورية للتوحد أو للتحالف يمكن القول إنها لم تتوقف منذ أن استلم الدكتور بشار الأسد الحكم عن والده في سابقة هي الأولى من نوعها في الأنظمة الجمهورية العربية، بل ومنذ ما قبل ذلك. ففي عام 1979 تشكل تحالف سياسي باسم التجمع الوطني الديموقراطي الذي ضم في حينه خمسة أحزاب هي حزب البعث الديموقراطي الاشتراكي العربي، وحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديموقراطي والحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي) وحزب العمال الثوري، وحزب الاشتراكيين العرب. وفي أوائل الثمانينات توسع هذا التحالف ليشمل أحزابا أخرى شيوعية وكردية وإسلامية ديمقراطية ومستقلين في إطار ما صار يعرف بإعلان دمشق.
لكن ونتيجة للموقف من التدخل الخارجي في شؤون سوريا عاد هذا التحالف وتمزق نتيجة تجميد حزب العمل الشيوعي والتجمع الوطني الديموقراطي باستثناء حزب المكتب السياسي عضويتها فيه، لتخرج منه لاحقاً. ومنذ نحو ثلاثة أشهر وتحت ضغط الشارع المنتفض، عادت هذه القوى السياسية المعارضة للحوار لتشكيل تحالف جديد يضمها جميعها لكنها فشلت. مع ذلك نتج عن هذه الحوارات تحالف بين ثلاثة عشر حزبا سياسيا وحركة والعديد من المستقلين والشخصيات العامة في إطار ما صار يعرف بهيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الوطني الديموقراطي، وعاد وتنشط من جديد تحالف إعلان دمشق لقوى التغيير الديموقراطي الذي يضم هو الأخر سبعة أحزاب والعديد من المستقلين والشخصيات العامة.
وفي الخارج عاد فتنشط الإخوان المسلمون والعديد من القوى الإسلامية الأخرى والمستقلين وشخصيات عامة وأخذوا يدعون إلى توحيد المعارضات السورية وعقدوا لهذا الغرض العديد من المؤتمرات في الخارج خصوصا في تركياً. غير أن جميع هذه المساعي باءت بالفشل نتيجة تدخل عوامل كثيرة بعضها من طبيعة شخصية، وأخرى لها علاقة بتحديد الموقع في التحالفات، وثالثها ربما له علاقة بارتباطات دولية غير معلنة لكنها ليست خفية، والقليل منها له علاقة بالخلافات السياسية المعلنة والخفية حول ضرورة الانتقال من النظام الاستبدادي القائم إلى نظام سياسي ديموقراطي تعددي.
قد يستغرب غير المطلعين جيدا على واقع المعارضة السورية القول بوجود عوامل شخصية تحول دون تحالف المعارضة السورية أو على الأقل تحالف بعض أطرافها الفاعلة خصوصا في الداخل، ودون ذكر أسماء معروفة، لكن هذه حقيقة واقعة. "فحيث يكون فلان لا أكون" هذا ما يردده في مجالسه بعض هؤلاء "القادة" المعارضين. مع ذلك وبعيدا عن دور العامل الشخصي الذي لا يمكن البرهنة عليه إلا بالحديث المنقول، وهذا برهان ناقص، فإن المؤكد هو أن التنافس على الموقع في أي تحالف منشود من الأسباب المهمة التي تعوّقه، ويعبر عن نفسه هذا السبب عادة من خلال المطالبة بحصص معينة في الهيئات التحالفية المزمع إنشاؤها، مغلفة بالقول بأولوية الداخل على الخارج أو بالعكس. هيئة التنسيق الوطنية تريد أن يكون الداخل هو القائد لأي تحالف، وهي تعلم أن الإخوان المسلمين ليس لهم وجود معلن في الداخل، بدوره إعلان دمشق والإخوان المسلمون يريدون أن تكون القيادة للخارج، بذريعة سهولة النشاط والحركة.
وعندما طرح هذا الموضوع في لقاء الدوحة بين التيارات الدينية ومنها الإخوان المسلمون وقوى إعلان دمشق وهيئة التنسيق، ورغم أنهم توصلوا ظاهريا إلى اتفاق يقر بالقيادة للداخل، ووزعت مقاعد القيادة على هذه الأطراف بالتساوي بواقع سبع مقاعد لكل طرف وأربعة أخرى للمستقلين بقيادة الدكتور برهان غليون، إلا أن الإخوان المسلمين سرعان ما انسحبوا من الاتفاق، واخذ إعلان دمشق بالمماطلة ليتبين لاحقا أنه مع الإخوان المسلمين وبعض القوى الكردية وشخصيات مستقلة يعملون على ولادة تحالف جديد يستثني هيئة التنسيق فكان مؤتمر اسطنبول الأخير وما نتج عنه من مجلس وطني سوري.
لماذا استثنيت قوى معارضة كثيرة في الخارج والداخل، وخصوصا هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الوطني الديموقراطي في سوريا من المشاورات التي أدت إلى مؤتمر اسطنبول، وما نتج عنه من مجلس وطني سوري برئاسة برهان غليون، وهو الذي حمّل الإخوان المسلمين صراحة فشل لقاء الدوحة، وكان قد أعلن مرارا أنه لن يقبل المشاركة في أي تحالف لا يشمل المعارضة السورية بجميع فصائلها وأطيافها، علما أنه كان نائبا لرئيس هيئة التنسيق ومسؤولاً عنها في الخارج؟!! هل لتركيا وفرنسا أي دور في ذلك؟ ليس من جواب مؤكد رغم انه من المعلوم على نطاق واسع العلاقات الجيدة بين تركيا والإخوان المسلمين، كما هو معلوم أيضا علاقة الدكتور غليون بفرنسا حيث يعيش ويدرس في إحدى جامعاتها ولا يخفي تأثره الشديد بعلمانيتها.
أنا هنا لا أتهم أي طرف من أطراف المعارضة السورية بما قد يفهم على أنه إساءة لها، لكن تعقيد الوضع الدولي ومصالحه المتشابكة والمتشعبة تجاه الواقع السوري إضافة إلى طبيعة النظام الاستبدادي السوري الذي أغلق جميع الأبواب في وجه الحلول السورية الممكنة قد تكون دفعت كثيرين إلى استسهال بناء علاقات مع هذا الطرف الدولي أو ذاك في مسعى لاكتساب عناصر قوة.
السبب الأهم في اعتقادي الذي يحول دون توحد المعارضة السورية في كيان سياسي واحد(تحالف أو جبهة) إضافة إلى الأسباب الأخرى التي أشرت إليها هو سبب غير معلن بشكل رسمي، لكنه حاضر بقوة في الكواليس، وخصوصا في هواجس قوى إعلان دمشق وهيئة التنسيق الوطنية، حيث تتهم قوى إعلان دمشق الهيئة بنسج علاقات مع السلطة وإنها مستعدة للحوار والتفاهم معها، مستندة إلى فهمها لتصريحات بعض قادة الهيئة وخصوصا من الشخصيات العامة، ولتفسيرها الخاص لبعض ما ورد في البيان الختامي الذي صدر عن مؤتمر الهيئة الموسع الذي انعقد الشهر الماضي بالقرب من دمشق.
بدورها بعض القوى المنضوية في إطار هيئة التنسيق تتهم قوى إعلان دمشق بنسج خيوط مع الخارج وهي تستدعيه للتدخل في شؤون سوريا لرأي لديها يفيد بأنه لا يمكن إسقاط النظام السوري بدون تدخل حاسم من الخارج، يوضحه أفراد منهم بأنه تدخل عسكري. وهي تلتقي في ذلك مع رأي الإخوان المسلمين المستجد، كما ينقل عنهم، وكما يصرح به بعض قادتهم، علما أن الإخوان المسلمين ما انفكوا حتى وقت قريب يفاوضون النظام ليسمح لهم بالعودة إلى سوريا كدعاة وليس كسياسيين، ومعلوم جيدا دور تركيا في هذا المجال. بكلام آخر عادت للأسف قضية الموقف من طرفي العلاقة الداخل الخارج ودور كل طرف منها في تقرير مصير ما يجري في سوريا، والموقف منها لتحول دون وحدة المعارضة السورية، علما أن من يقولون بالدور الحاسم للداخل من خلال الانتفاضة وتقديم الدعم لها والعمل على انتشارها وشمولها لجميع فئات الشعب السوري وأطيافه لكي تتحول إلى قوة جماهيرية، لا ينكرون أهمية دور الخارج المساند سياسيا ودبلوماسيا وحقوقيا، أي كل ما لا يرقى إلى التدخل العسكري.
وبدورهم من يقولون بالدور الحاسم للخارج حتى ولو أخذ شكل التدخل العسكري كإجراء قد يكون لا بد منه في نهاية المطاف، لا يتجاهلون أهمية دور الانتفاضة وضرورة استمرارها وتقديم الدعم لها. باختصار ما يوحد المعارضة أكثر بكثير مما يفرقها، فهي تتفق على أن النظام لا يمكن إصلاحه وبالتالي لا بد من تغييره، ويتفق الجميع على أن البديل من النظام الاستبدادي هو نظام ديموقراطي تعددي، ويتفق الجميع على ان الانتقال من النظام الاستبدادي إلى النظام الديموقراطي يحتاج إلى فترة انتقالية قد تكون طويلة نسبيا، لا تستثني بعض ممثلي السلطة من المشاركة فيها، ويتفق الجميع على ضرورة المصالحة الوطنية الشاملة لمداواة الجروح الكثيرة التي تسبب بها النظام في جسم الكيان السوري…
ومع ذلك لا تتوحد المعارضات السورية في كيان سياسي واحد، ببساطة لأن وحدتها هذه ليست ضرورية، ما هو ضروري ربما هو وحدتها في تيارات سياسية وفكرية كبيرة تنسق في ما بينها، استنادا إلى وحدة الرؤية السياسية لديها تجاه قضايا الانتقال من النظام الاستبدادي إلى النظام الديموقراطي ومستلزماته، وهذه متحققة بنسبة كبيرة.

السابق
رسالة قلقة إلى السيد رجب طيب أردوغان
التالي
الرئيسة الإيرلندية زارت كتيبة بلادها في تبنين: