كأننا عشية اجتياح عام 1982

الموقف الأخلاقي من الأزمة السياسية الحالية التي تواجه لبنان يدفع إلى الاعتقاد بأن الأمور تسير من سيّئ إلى أسوأ، بوتيرة لا تقل خطورة عن تلك التي سبقت الاجتياح الإسرائيلي الكبير عام 1982. وإذا كان من المنطقي تجاهل المتغيرات التي عصفت بقوة المقاومة منذ ذلك التاريخ إلى اليوم، فإن من الأفضل الاكتفاء بالقول، على حدّ تعبير الباحث في التاريخ السياسي والرئيس السابق للحزب السوري القومي الاجتماعي يوسف الأشقر، إنه للمرة الأولى في التاريخ، تستطيع قوة مقاومة أن تمتلك قدرة تمنع العدوان على بلدها. أي إنه بدل أن تكون المقاومة قوة طاردة للاحتلال، وقوة ممكنة التكوّن بعد حصول الاحتلال، فإن المقاومة في لبنان نجحت في امتلاك قوة مانعة للاحتلال نفسه. وهو نموذج تعرف إسرائيل معناه بقوة، كما تعرفه الولايات المتحدة، ويدرس الغرب نتائجه في ساحات أخرى بعيدة جداً عن لبنان والشرق الأوسط. وهو نموذج يلفت انتباه مجموعات مقاتلة من أجل الحرية في أكثر من مكان في العالم. وهي مجموعات تنتمي فكرياً ودينياً إلى ما لا يشبه الانتماء الديني والفكري لتيار المقاومة في لبنان.

ونجاح المقاومة هذا وفّر، في الحد الأدنى، الشعور بالقوة في مواجهة الاستحقاقات ذات الطابع الخارجي، بمعنى التهديد الذي يستخدم طوال الوقت مع اللبنانيين لإلزامهم بتنازلات ومواقف معينة، خشية تعريضهم لعقاب تتولاه إسرائيل من الخارج أو قوى الحرب الأهلية في الداخل. لكن هذا الشعور ليس معمّماً بقوة على النادي السياسي العام. الآن، في صورة القوى الحية في لبنان، يمكن العثور على العماد ميشال عون والتيار الوطني الحر فقط، الذي يجيد الاستفادة من هذا العنصر. ربما لأنه كان ولا يزال يعيش في البيئة التي كانت الأكثر نفوذاً في السلطة والأكثر تأثراً بالضغوط الخارجية، السياسية والاقتصادية وغير ذلك. يقول العماد عون اليوم كلاماً واضحاً، لا لبس فيه. هو يأخذ في الاعتبار الظروف من حوله، لكنه يعرف تماماً أنه لا معنى لكل التهويل الآتي عبر بريد السفارات. ثم هو خبر في تجربته الطويلة بين لبنان وخارجه حدود قوة الغرب وحجم مصالحه وحجم قدرته على التدخل والمغامرة.

في المقابل، هناك قوتان حيويتان على الأرض، واحدة تمثلها «القوات اللبنانية» وملحقاتها من مسيحيي 14 آذار، وثانية يعبّر عنها تيار «المستقبل» وملحقاته من قوى إسلامية بعضها حركي الاتجاه. ويحاول أن يقف في الوسط زعيم حزب العاطلين من العمل وليد جنبلاط الذي لا يزال مستفيداً بقوة من غياب المساءلة من قبل قاعدته الشعبية بغالبيتها الدرزية.

في ملف النزاع الداخلي، يتصرّف الجميع في انتظار ما سوف تؤول إليه الأوضاع في سوريا. حزب الله والتيار الوطني الحر يعلنان صراحة وقوفهما إلى جانب برنامج الإصلاحات الذي يتبنّاه الرئيس السوري بشار الأسد، فيما يقف تيار «المستقبل» و«القوات اللبنانية» إلى جانب كل من يقدر على إسقاط النظام السوري، بينما يواظب جنبلاط على هواية الوقوف على التل، منتظراً هبوب الرياح كي يميل معها، في حين هو يعبّر عن كرهه للنظام في سوريا ولحليفيه في لبنان، أي حزب الله والتيار الوطني الحر. لكنه يتصرف وفقاً لمبدأ «الواقعية» السياسية، إذ لا يقدر هو على «الانتحار السياسي» إذا تبنّى الموقف الرافض للنظام وللمقاومة علناً. وهو لا يحتاج إلى كثير تبرير لأنصاره بالقول «شو بنعمل؟»، بينما يتولّى أنصاره تبرير موقفه هذا بالقول «إنه رجل حكيم، وهو لم يكن في جيب 14 آذار ولن يكون في جيب 8 آذار»! 
لكن لماذا المقارنة مع الأجواء التي سبقت الاجتياح عام 1982؟
أولاً، لأن الغرب الاستعماري وإسرائيل ودول عربية بارزة تتصرف الآن على أساس أنها في مواجهة خصم واحد هو المقاومة، في لبنان وفلسطين وفي العراق، وفي مواجهة من يدعم هذا التيار، وخصوصاً سوريا وإيران. وبالتالي، فإن لدى هذه المجموعة ما يكفي من الأسباب السياسية والموضوعية لتبنّي خيار إطاحة هذا التيار بكل الطرق المتاحة. وبالطبع، لا يشعر هؤلاء بالحاجة إلى إعلان جبهة واحدة، تماماً كما فعلوا في عام 1982 عندما شنّت إسرائيل حرباً واسعة بدعم أميركي عسكري ودبلوماسي، وصمت وتواطؤ من الدول العربية نفسها التي تقف اليوم ضد المقاومة.

ثانياً، لأن الهدف من ضرب أو تدمير تيار المقاومة، يمثل بالنسبة إلى التيار الذي تقوده الولايات المتحدة الفرصة الوحيدة لمنح النظم العاملة معه هدنة وفرصة حياة إضافية تستمر لعقدين أو ثلاثة على الأقل. وقد تعاظمت هذه الخشية بعدما فتحت الانتفاضات في العالم العربي كوة كبيرة في جدار الصمت الذي كان مفروضاً على شعوب دول كبيرة مثل مصر، حيث جرى تحييد الجمهور، لا الدولة فقط، خلال كل الصراع الممتد منذ عام 1982 حتى اليوم.
ثالثاً، لأن الانهيار الكبير الذي أصاب المؤسسة العربية الرسمية الحاكمة في غالبية الدول العربية، وتوقع المزيد من التصدع والتفكّك في بقية هذه المؤسسات، ترافقا مع ارتفاع منسوب التحريض الطائفي والمذهبي والعنصري، ما مثّل أرضية صالحة لخوض المعركة نفسها، ولكن بعناوين جديدة. وما فشل كل المحاولات السابقة لتفجير الفتنة إلا سبب إضافي للبحث عن وسائل جديدة للإثارة عند الجمهور المنقسم على أساس طائفي ومذهبي. وبالتالي، فإن هذا الفريق يشعر بأنه الآن أمام فرصة لاستثمار هذه التعبئة. وما دامت موازين القوى الداخلية في لبنان وفلسطين وسوريا والعراق وإيران تمنع على القوى الحليفة لأميركا فرض متغيرات كبيرة، فقد صار ملحّاً أن يبدر عمل من الخارج على شكل تدخّل أو اجتياح لأجل ملاقاته من الداخل عبر هذه القوى وتحت ألف حجّة وذريعة.

رابعاً، لأن كل يوم يتأخر فيه هذا المحور الشيطاني في تنفيذ مخططه يتحول عنصر قوة في يد فريق المقاومة وتيارها السياسي والرسمي، خصوصاً بعدما أظهرت تطورات العقدين الأخيرين أن دولة مثل إيران صارت أكثر قوة من كل دول المحور العربي وغير العربي المؤدي إلى أميركا، وأن دولة مثل سوريا تجاوزت سلسلة من المطبات التي كانت تودي بدول أكبر منها، وأن قوى المقاومة نفسها حققت نجاحات هائلة على مستوى التطور والتقدم والتجهيز وآليات العمل، بينما برز تطور أكثر حساسية، تمثل في نقل العراق من ضفة الولايات المتحدة تماماً إلى ضفة يمكن فيها التيار الآخر التحرك وتحقيق أهداف فعلية واقعية وغير وهمية. وكل ذلك يقود إلى نتيجة واحدة، وهي أن هناك، في المقابل، تفكّكاً بدأ في مصر وتونس، وسط تراجع هائل في نفوذ دول الخليج، وانهيار المنظمة السلطوية للقوى الحليفة في لبنان وفلسطين، وتراجع نفوذ الموالين لأميركا داخل العراق.

غير ذلك، ثمة الكثير من الأسباب التي توجب الحذر هذه الفترة. لكن الشرارة التي ينتظرها الجميع قد يطول انتظارها وربما لا. المهم أن بلادنا تقترب سريعاً من لحظة الانفجار… عسى أن نكون من المخطئين! 

السابق
نظام دمشق يهدد الغرب بمعية إسرائيل
التالي
يقود المقاومة…وعمره شهر