الدولة في نيويورك .. والبطريرك في مجاهل لبنان

تذهب «الدولة» إلى الأمم المتحدة في نيويورك، في رحلتها الرئاسية السنوية التقليدية مفيدة، هذه المرة، من كون لبنان هو الرئيس الدوري لمجلس الأمن الدولي لهذا الشهر… وقد يتزاحم رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير الخارجية مع مندوب لبنان الدائم في المنظمة الدولية على اعتلاء المنبر الفخم… ولا قضية!
لا جديد عند لبنان يقوله في هذه اللحظات العصيبة، ولا مجال لإعادة النظر في القرارات التي سبق أن أصدرها مجلس الأمن فتسبّبت في تفاقم الخلافات بين أبنائه، لأسباب تتصل بمصالح «الدول» وليس بمصلحة هذا الوطن الصغير، بدءاً بالقرار 1559 وانتهاءً بالقرار 1701 وصولاً إلى القرار 1757 ومحكمته الدولية.
مع ذلك فرحلات العلاقات العامة تبقى مفيدة، وبالتأكيد فإن صالات الاستقبال في منازل رجال الدولة ستزدان بصورهم مع الكبار في العالم، وبالتحديد مع الأميركيين منهم، ممّن قد تسمح الظروف بلقاءات معهم، ولو قصيرة وبالكاد تكفي لتبادل مجاملات التعارف والاطمئنان على استقرار لبنان في ظل العواصف التي تهب على المنطقة بشعارات «الربيع العربي»، والتي تلهب مشاعر شعوبها الطامحة إلى التغيير فتدفع من دمائها ثمن التخلص من أنظمة الطغيان التي كانت ـ بمجملها ـ تحظى بالرعاية الأميركية ـ الأطلسية حتى اليوم السابق لسقوطها.
بالمقابل فإن البطريرك الماروني بشارة الراعي كان على وشك اختتام جولاته في مجاهل لبنان مما يسمى بالمناطق (النائية) التي ندر أن جال فيها كبار الدولة وتعرّفوا إلى أحوال «المواطنين» المنسيين فيها وتصدّوا أو حاولوا التصدي لمعالجة مشكلاتها المعتقة، سواء ما يتصل بمأساة الزراعة التي باتت مصدراً لخسارة محققة، مما دفع الناس إلى هجر الأرض التي لم تعد تطعمهم، أو ما نتج وينتج عن انعدام فرص العمل حتى للمؤهلين من أبنائها… بغير أن ننسى التقصير الفاضح في مجالات التعليم الرسمي حيث يضطر المواطنون إلى بيع أملاكهم من أجل إيصال أبنائهم إلى الجامعات (وهي في الغالب الأعم أجنبية). أما سائر الخدمات فحدّث ولا حرج!
ولقد سمع أهالي هذه المناطق الساقطة سهواً من ذاكرة الدولة، سواء في جبل لبنان (الممتاز) أو في الجنوب، أو خاصة في البقاع، من البطريرك الماروني منطقاً جديداً يتميّز بوحدويته وصراحته في إدانة الطائفية والنفاق السياسي، وتحذيره من ضياع الأرض بعد تغرّب إنسانها: لا تبيعوا الأرض ولا تهجروها!
على هذا استقبل اللبنانيون، على اختلاف طوائفهم، هذا البطريرك الحامل المنطق الوحدوي، الذي يكاد يكون «ثورياً»، والذي يستفز الطوائفيين جميعاً، بترحيب يخالطه قدر من الدهشة: هل ثمة تحوّل في توجهات الكنيسة تعكسه الخطابات المتوالية معززة بالتصريحات الشجاعة التي أطلقها سواء خلال مواجهاته مع رجالات الدولة في فرنسا، أو في لقاءاته مع الجمهور الذي التقاه في جولاته التي شملت معظم جهات هذا الوطن الصغير، الذي يعيش أهله قلقاً مصيرياً على دولتهم وعلى وحدتهم الوطنية، في ظل التصادم بين إرادة التغيير التي تجتاح الشارع العربي وبين الأنظمة المتحجرة التي ترى في الإصلاح مؤامرة خارجية على «الكيان» بدولته وشعبه جميعاً؟!  
وليس من المبالغة القول إن خطاب البطريرك الماروني يستعيد لغة مهجورة منذ زمن بعيد، فالقيادات السياسية بمجملها، سواء التي وصلت إلى سدة الحكم أو التي ما تزال في «الشارع»، قد انصرفت عن الخطاب الوحدوي، واختار كل منها ما يفترض أنه يكسب به «جمهوره» بمعزل عن الآخرين أو بالتضاد معهم… وهكذا غابت السياسة عن خطب «القادة» ليحل محلها الخطاب الطائفي المباشر، الذي يلغي «المواطن» و«الوطن» ويروّج للانقسام والتقسيم، بما يلغي «الدولة» بمؤسساتها جميعاً.
وبالتأكيد فإن الأهالي في المناطق المنسية، برغم قصر المسافات في هذا الوطن الصغير، قد تفجّروا فرحاً وهم يستقبلون «كبيراً» تذكّرهم، وجاء إلى زيارتهم حيث هم بينما يتوالى الرؤساء بعد الرؤساء والحكومات بعد الحكومات ولا يخطر ببال واحد من «أصحاب الدولة» أن يتفقد بعض النواحي الساقطة من ذاكرة الدولة، ومن «موازناتها» التي يضيع قسم كبير منها عبر اختلاسات منظمة أو عبر مشاريع وهمية توضع على الورق ثم لا تنفذ وتختفي اعتماداتها!
[ [ [
الحركة بركة… وقد تكون مشاركة رئيسي الجمهورية والحكومة، إضافة إلى وزير الخارجية، في اللقاءات التي تجري على هامش انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، مفيدة، تذكّر العالم بأن الحرب الإسرائيلية على لبنان لما تتوقف، فطيران العدو يخترق سيادته مرات كل يوم، وبحريته تتحرّك بحرية أمام شواطئنا، فضلاً عن أن ملايين الألغام التي رمتها قواته في أرضنا ما زالت تتفجر في أهل الأرض فتودي بحياة العديد منهم أو تصيب بعضهم بتشوّهات دائمة.
وبديهي أن هذا الوفد الفخم قد يرفع الصوت مؤيداً حق الشعب الفلسطيني في دولة له فوق بعض البعض من أرضه، مع علمه مسبقاً بأن مجلس الأمن يصاب بالصمم كلما ذُكرت قضية فلسطين، بينما نراه قد وافق، بأثر رجعي على الاحتلال الأميركي للعراق، وقد تبنى دور الحلف الأطلسي في تحرير ليبيا من قائدها المخلّد… أما إسرائيل فهي دائماً فوق النقد ولا يطالها الاعتراض حتى وهي تجهد لإبادة شعب وحرمانه حقه في الحياة في أرضه التي كانت وستبقى أرضه مهما طال زمن الاحتلال.
 

السابق
البناء: الراعي من البقاع: كونوا كباراً في المصارحة والكهرباء في مواجهة كيدية المعارضة اليوم
التالي
عدلون تلحق بالعديسة وربثلاثين ومحيبيب