المحضر الرسمي للقاء برّي وولش

القاعدة العامّة في الحياة البشرية بكلّ تلاوينها تقول إن "ليس كلّ ما تراه العين يكون دائما الحقيقة"، وإن "ليس كلّ ما يلمع ذهبا". ولذا، ليس كل ما يكتب يعبّر دوما عن الحقيقة، خصوصا في زمن الخصومات والنزاعات السياسية التي تبرر لكلّ فريق سياسي ان يتوسّل ما يريد في معركته ضد خصومه، غير عابىء بما يمكن ان يكون للمادة المستخدمة من انعكاسات ليس على الخصم فقط، وإنما على الشأن العام.

وهذا الواقع ينطبق على "حرب الوثائق"، إذا جاز التعبير، التي تعصف بلبنان والمنطقة منذ سنة او أكثر، وتترك احيانا آثارا سلبية تتمثل بتفجير خلافات بين المتخاصمين او المتنازعين حينا، وبين أبناء الصف الواحد احيانا.

في هذا المجال يتوقف علي حمدان، المستشار الإعلامي لرئيس مجلس النواب نبيه بري، عند ما ينشره البعض من وثائق عن اجتماعات لبري مع دبلوماسيين أميركيين أثناء حرب تموز 2006 وبعدها، ويكشف لـ"الجمهورية" محاضر جلسات كان مشاركا فيها بصفته مسؤول العلاقات الخارجية في حركة "أمل" التي يرأسها بري، قبل ان يصبح مستشاره الاعلامي اليوم.

يروي حمدان لـ" الجمهورية" ان مدير دائرة الشرق الاوسط في الخارجية الاميركية ديفيد ولش زار لبنان في 16/5/2007 للمرة الاولى بعد حرب تموز 2006، يرافقه السفير جيفري فيلتمان، وكان له لقاء مع رئيس مجلس النواب نبيه بري في حضوره.

ويستغرب حمدان ما نشر على انه "وثيقة سَطّرها فيلتمان لحكومته"، حول ما جرى في هذا اللقاء.

المحضر

وجاء في المحضر: "إستهلّ الرئيس بري الاجتماع بمفاتحة ولش في موضوع وقف إطلاق النار في الجنوب، فقال: "أين وقف اطلاق النار؟ لقد كنت وعدتني انه سيتم إعلانه خلال ستة أيّام، اين هو هذا الوعد الذي مضى عليه نحو سنة؟"

رَد ولش بعدما تجهم وجهه واحمَرّ قائلا: "كنت أنا على خطأ. وكنت أكثر منّي على حق".

(هنا يعود حمدان الى محضر الاجتماع الاخير الذي عقده بري مع ولش صيف 2006 في حضور فيلتمان والمستشار القانوني للخارجية الاميركية وللوزيرة كوندوليزا رايس، وذلك عندما كانت المفاوضات دائرة في الامم المتحدة لاستصدار القرار 1701 في مجلس الامن. وحسب محضر هذا الاجتماع الذي سبق وضع اللمسات الاخيرة على القرار 1701، تعهّد ولش لـ برّي بأن يتم إعلان وقف اطلاق نار رسمي خلال سبعة ايام، وذلك عندما سأله بري عن معنى "وَقف الأعمال الحربية" قائلا له: "هذا شيء جديد علينا، ونحن نريد وقفا لإطلاق النار".

وردّ ولش: "إنّ وَقف النار سيتمّ في فترة اقصاها سبعة ايام". وهنا استدرك الرئيس بري قائلا له: "ما الذي يضمن تجدد الاعمال الحربية مع اي حادث؟ اذ يمكن لأيّ شخص ان يلقي قنبلة على الاسرائيليين او بالعكس وتتجدد الحرب. وماذا يمكن ان يحصل خلال هذه الايام السبعة؟ ومن سيرعى هذا الامر، وما الإطار القانوني الذي يضمن عدم تجدّد الحرب؟". ثمّ أصرّ الرئيس بري على ايجاد اطار يضمن عدم تجدد الحرب، وقال لـ ولش: "كان هناك تفاهم نيسان 1996، وهذا التفاهم يمكن ان يستمر في رعاية الوضع، فالجيش اللبناني موجود وقوات الـ يونيفيل موجودة". ثم تركه ومرافقيه لبعض الوقت لكي يتشاوروا في ما بينهم، مصرّا عليهم بأنهم لن يخرجوا من مكتبه إلّا إذا وضعوا صيغة نهائية تضمن وقف اطلاق النار، والتي أثمرت لاحقا صدور القرار 1701. وبعد ثلث ساعة، اتفق الفريق الاميركي في ما بينه واستؤنفت الجلسة، فاقترح ولش ان الولايات المتحدة تضمن وقف النار، فردّ بري: "واشنطن تضمن؟ انا اريد ضمانا فعليّا". فقال ولش: "كلمتنا كلمة. نحن نعطي كلمة". فقال بري: "لا أريد ان اسمع منك، اريد ضمانا من رؤسائك… من البلاط".

وبعد الجلسة، اتصل فيلتمان بحمدان وذلك قبيل انعقاد جلسة مجلس الامن (التاسعة ليلا يومها)، ليؤكد ان ما طلبه الرئيس بري كضمان ستقدّمه الوزيرة رايس حرفيّا وشخصيّا خلال الجلسة، ليكون "وثيقة التزام". وعلّق بري: "لننتظر ونرى".

(وفي هذه الأثناء، كان وزير الخارجية القطري حمد بن جاسم رئيسا للمجموعة العربية في مجلس الامن. فطلب، بناء على اتصالات حثيثة جرت بينه وبين الرئيس بري قبل جلسة مجلس الامن وخلالها، وكرّر شخصيا طرح ما طلبه برّي ان يكون تفاهم نيسان قاعدة للحل، ثم أكّدت رايس الامر نفسه امام اعضاء مجلس الامن).

عودة الى الجلسة

وبالعودة الى محضر جلسة 16/5/2007، قال ولش لـ بري: "لم نكن لنَصِل الى هذه الحال في الجنوب اليوم، والتي لا تزال غير مكتملة بسبب عدم اعلان وقف إطلاق نار فِعليّ. ولكن الوضع افضل بكثير، وهذا بفضلك وبفضل جهودك يا دولة الرئيس".

بري: "اني كما وعدت، لا توجد مشكلة طالما ان الوضع تحت القرار 1701، وتاريخنا منذ العام 1978 والقرار425 يشهد على ان لبنان لم يَخلّ بالتزاماته، ولكن امامنا اليوم حذر من الوضع الداخلي".

ولش: "انا أودّ ان اسمع رؤيتك ووجهة نظرك يا دولة الرئيس حول الاوضاع، خصوصا انني متفاجىء بأن المجلس النيابي لا ينعقد، وتقديرنا ان السبب هو المحكمة الدولية الخاصة بلبنان".

بري: "هذا الامر غير صحيح ابدا. المحكمة ليست السبب. وقد شرحت لرئيسة مجلس النواب في الكونغرس الاميركي نانسي بيلوسي ان لدينا في لبنان فيدرالية طوائف كفيدرالية الولايات المتحدة، والميثاق الوطني والدستور ينصّان في الفقرة "ياء" من مقدمة الدستور على أن: "لا شرعية لأيّ سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك". ففي لجان انتخابات ملكة جمال لبنان، مثلا، تتمثل الطوائف الاساسية، وكذلك في مجالس ادارة مصالح المياه. وهناك طائفة أساسية غير ممثلة في هذه الحكومة، الامر الذي يفقدها ميثاقيتها، حتى ان النواب الارمن اذا قاطعوا لسبب ما جلسة من جلسات مجلس النواب، لا يمكنني ان اعقد هذه الجلسة، والحكومة من دون الشيعة ليست ميثاقية. المشكلة ليست في المحكمة، وانما في الحكومة. واهم ما يريده لبنان هو حكومة وحدة وطنية؟ ولهذا السبب حدّدت 25 ايلول 2007 موعدا لجلسة انتخابات رئاسة الجمهورية. وفي هذه الحال، يستطيع المجلس الانعقاد كهيئة ناخبة، ولا علاقة للحكومة به".

ولش: "على كل حال ملفّ المحكمة موجود الآن في الامم المتحدة ويقترب من ايجاد حلّ له، ولكننا نتخوف ممّا تضمنته رسالة الرئيس لحود الاخيرة الى اللبنانيين، إذ انه قد يلجأ الى تشكيل حكومة، ما يجعل البلد في ظلّ حكومتين".

بري: "طالما ان قوى 14 آذار لم تتفق على مرشّح رئاسي في ما بينها ولم تتوافق معنا على مرشح، فإنّ ذلك سيعطي المجال للرئيس لحود. وانا، من خلال كل مبادراتي، أحاول حلّ المشكلة. وكنت أنوي، مؤخرا، القيام بجولة عربية لعرض تصوّري للحوار الوطني والحل. ولكن كالعادة، رفضت قوى 14 آذار هذا الامر، وأغلقت الباب. وفي مكان آخر، أجريت مفاوضات مع سعد الحريري لمدة عشرة ايام، وفجأة رفض مبادرتي. عندها لم يبق امامي إلّا ان اذهب الى انتخابات رئاسة الجمهورية، فدستوريّا، يحق لي ان ادعو الى هذه الانتخابات قبل شهرين من انتهاء ولاية الرئيس، ولذلك حددت 25 ايلول (2007) موعدا لهذا الاستحقاق، لكي أدفع بالجميع الى الاهتمام به. وفي هذه الحال، تصبح الحكومة مستقيلة حكما لدى انتخاب رئيس جمهورية جديد. ولقد رفضت قوى 14 آذار التوافق على رئيس الجمهورية الجديد، كذلك رفضت نصاب الثلثين لجلسة الانتخابات الرئاسية. ولهذا، الرئيس (لحود) ينتظر ذلك لتأليف حكومة جديدة، لكنني أحبّذ انتخاب رئيس جديد، عِلما ان البطريرك (مار نصرالله بطرس صفير) شدد على نصاب الثلثين لانتخاب الرئيس. وحسب الدستور المعمول به منذ العام 1943 حتى اليوم، فإن انتخاب رئيس الجمهورية يتمّ على اساس نصاب الثلثين، ولم يتمّ الإخلال به في اي استحقاق رئاسي. وفي العام 1988، شجّع السوريون ترشيح الرئيس الراحل سليمان فرنجية، ويومها أدليتُ بتصريح شدّدت فيه على ان يتم انتخابه بنصاب الثلثين، وحليفكم جعجع شدّد يومها ايضا على التوافق ونصاب الثلثين".

ـ ولش: "نحن لدينا مصلحة في انتخاب رئيس جديد، ويبدو لي أنّ ما تفضلتم به هو مقاربة منطقية، ونحن نحتاج الى نصيحتك. عام 1988 كنّا نبحث في أسماء اربعة مرشحين للرئاسة ولم ننجح، ولكننا الآن نريد ان نعمل وفق تصوّرك، لا نريد شخصية شبيهة بشخصية الرئيس لحود، ولا نريد شخصية لديها ارتباطات خارجية، فلنضع معايير".

بري: "بهذا التفاهم ـ التسوية يكون الرئيس لبنانيّا وصناعة لبنانية".

ولش: "أقدّر صراحتك يا دولة الرئيس، وإني معجب بها".

بري: "نريد رئيسا لا يكون على خلاف مع سوريا لأن في ذلك مصلحة لبنان، وكذلك أن يكون على علاقة مع الولايات المتحدة لأن في ذلك مصلحة للبنان ايضا. هذه هي خريطة الطريق تحت الدستور، وتحت العرف".

ولش: "لا نريد رئيسا للبنان مثل طوني بلير في بريطانيا، ولديك دور اساسي يا دولة الرئيس دستوريّا وسياسيا من الآن وحتى موعد الاستحقاق الرئاسي".

الاختلاقات والدسائس

وفي ضوء هذا المحضر، قال حمدان: "تتبيّن لنا الاختلاقات والدسائس التي دُسّت في شيء سمّوه وثيقة للخارجية الاميركية، فليس من عادة الرئيس بري استخدام تعابير تنال من كرامات الناس. ولطالما عُرِف، ولا يزال، باحترامه لخصومه السياسيين احترامه لحلفائه، وهو يوم أطلق الحوار في 2 آذار 2006 قال إن لا عداوة بين اللبنانيين، وإن الخصومة السياسية مشروعة، لكنها لا تمنع الحوار. والواضح ان هناك من يحاول تأجيج الفتنة وافتعالها بكلّ عناوينها السياسية والطائفية والمذهبية، والواضح ايضا ان استهداف الرئيس بري في هذا التوقيت انما هو استهداف لدوره الوطني الجامع كصمّام أمان وضمان للبنان واللبنانيين ولعمل المؤسسات الدستورية، لأنه يقود المؤسسة الدستورية التي هي مصدر السلطات كلها، ولأنه يدير تجربة جديدة على الحكم في لبنان وعريقة في الديموقراطية بين معارضة وموالاة. ويسعى جاهدا الى انجاح هذه التجربة ـ التمرين السياسي- إذا جاز التعبير. وهو قبل يومين قال: "لا الموالاة مُعتادة على الحكم، ولا المعارضة لديها مشروع؟". ولعله كان مطلوبا ان يبقى لبنان عالقا في الازمة، في ظل رهانات البعض على الغليان الذي تشهده المنطقة، فأراد الرئيس بري ان يكون لبنان مُحيّدا بالحد الادنى عن هذا الغليان وعن الانقسامات العربية، واراد ايضا للبنان ان يبقى طليعيا دائما وفي أحلك الظروف المذهبية التي تعصف بالمنطقة، من خلال دفعه الى تأليف الحكومة، عابرا الطوائف والمذاهب، اعتقادا منه ان الخلاف القائم هو سياسي وليس طائفيا او مذهبيا، فيما يسعى البعض الى عرقلة خطواته، بغية إعادته الى مستنقعهم الطائفي والمذهبي المقيت".

السابق
محمود عباس ينتظر المأذون
التالي
حملة المقعد الطائر تبدأ من بيروت.. المطلب هو جعل فلسطين الدولة الـ 194 في الأمم المتحدة